العالم يبدأ كبيرًا ثم يتضاءل
عجيب جدا إحساسنا بالمكان وبالمساحة، أتذكر فى الطفولة كم كنت أشعر بأن حجرات المنزل كبيرة وكم كانت فصول الدراسة عملاقة و كذا أيضا حوش المدرسة، أما الشوارع فكانت أكثر غموضًا من غيابات الجب.
بعد فترة ومع الانتقال إلى المرحلة الإعدادية تصادف أن زرت المدرسة الابتدائية فوجدت أن فصول الدراسة ليست بالحجم الذى أشعر به من قبل وأن حوش المدرسة «فركة كعب» وأن الشوارع المحيطة صغيرة ومحدودة، ثم مع الانتقال إلى المرحلة الثانوية شعرت بكبر حجم الفصول والحوش وعندما عدت إلى المدرسة الإعدادية مرة أخرى شعرت كم هى صغيرة، أما المدرسة الابتدائية فشعرت أنها أكبر قليلا من «كشك السجاير».
الأمر تكرر خلال المرحلة الجامعية ثم تكرر مرة أخرى فى بدايات الانتقال إلى الحياة العملية، فأصبحت الأماكن أصغر وأكثر محدودية، ثم مع السفر خارج البلاد شعرت بقرب المسافات و صغر الأماكن ثم جاءت شبكة الإنترنت فشعرت أن العالم قرية صغيرة ثم مع تقدم تقنيات تلك الشبكة شعرت أن العالم حجرة صغيرة.
وليس الأمر مرتبطًا بالأماكن وحجمها وحسب بل انتقل هذا الإحساس إلى البشر والأحداث، فالبشر «قطعيات» لكل مجموعة صفات وسلوكيات وأسلوب ودوافع متشابهة، كذلك الأحداث أصبحت متشابهة ومتوقعة، حتى الأحداث التاريخية الكبرى أصبحت منطقية، ومع التقدم فى العُمر تتراجع مساحات الدهشة وتحل محلها مساحات التوقع ومنطقية الأمور وهذا لا علاقة له بما نحب ونكره ولكنها تلك هى الحياة ولذلك فإنه مع التقدم فى العمر نشعر أيضا بان الأحداث تتكرر وأن سيزيف وأسطورته أمر واقع وهو ما يجعل العيش لسن متقدمة فى غاية الملل فالتكرار هنا لا يعلم الشطار ولكنه يصيب المتفكرين بالضجر واللامبالاة.
ولذلك وبعد كل تلك السنوات تذكرت أبيات من الشعر لزهير بن أبى سلمة درسناها فى المرحلة الابتدائية ولم أشعر بها لا بعد التقدم فى العمر فهى تعبر عن الحال تمام التعبير حين قال: « سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ
رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ».