جيزيل البلارينا الناطقة
هند سلامة
تعتمد نصوص الميلودراما فى المسرح على مهارة الممثل فى إثارة وتأجيج مشاعر الجمهور؛ تنجح هذه الأعمال عادة لقدرتها على إثارة الأشجان والحزن فى نفوس المشاهدين؛ لكن كيف إذا قدمت هذه الميلودراما العاطفية فى قالب فنى راقص وبأشد فنون الرقص تعقيدًا وأكثرها عزلة عن فنون الأداء المتعارف عليها.. وهو فن الباليه المصنف عادة بفن الصفوة.
يعتبر “جيزيل” من أكثر عروض الباليه ميلودراما ومتعة فى آن واحد؛ الباليه الأشهر الذى يمنح لمصممه المساحة الدرامية للعب على تقديم عمل فنى يجمع بين القصة الرومانسية والتحولات التراجيدية ومتعة الرقص والتمثيل والموسيقى التى آلفها «أودلف آدم»؛ جاء باليه «جيزيل» من وحى الأسطورة الألمانية الشهيرة فى البلاد السلافية تحكى أن هناك رقصة ليلية معروفة باسم «الويليس»، حيث ترقص أرواح صبايا عذارى كن مخطوبات ولكن لسوء الحظ وافتهن المنية ليلة زفافهن؛ وعلى الرغم من مغادرتهن الحياة فإن أرواحهن الشابة ما زالت متعطشة للرقص الذى حرمهم القدر منه، فيخرجن من قبورهن فى الليالى المقمرة إلى وادى الصمت؛ ينتقمون ليلًا من الرجال عن طريق إرغام كل رجل يقابلونه على الرقص بلا توقف حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.
تدور أحداث «جيزيل» عن الصراع الأزلى بين طبقة النبلاء والبسطاء، يأتى ألبرت دوق سيسيليا الشاب متنكرًا فى هيئة فلاح فى الغابة ويُطلق على نفسه اسمًا مستعارًا، تنشأ علاقة حب بينه وبين الخيّاطة التى تعيش فى الكوخ المقابل له، “جيزيل” التى تعشق الرقص كما يحب «هانز» «جيزيل» أيضا؛ ولكنه لا يعرف حقيقة إصابتها بمرض فى قلبها يمنع تعرّضها لصدمات نفسية لأنها قد تؤثر على حياتها؛ يشعر هانز بعلاقتها الغرامية مع لويس ويُقرر الانتقام؛ ومع وصول وفد ملكى للصيد فى القرية التى يقطنونها تعم الفرحة والاحتفالات المكان وتُشارك جيزيل بالرقص أمام إحدى السيدات النبيلات التى هى فى حقيقة الأمر خطيبة الدوق؛ ولما تعرف جيزيل بأن لويس هو دوق سيسيليا وأن حبهما كان أكذوبة تصبح هذه الرقصة بمثابة رقصة السعادة الأخيرة فتفقد عقلها من هول الصدمة وتُفارق الحياة حزنا على ضياع حبها بعد أن أخبرها هانز بالحقيقة؛ تقوم ملكة الويليس ميرثا أميرة الأطياف باستدعاء جيزيل من ضريحها لمواجهة ألبرت.. بينما يطارد الويليس هانز حتى يُفارق الحياة؛ تخرج جيزيل للقاء ألبرت فيشعر بالذهول وعدم التصديق ويحاول الإمساك بها لكنه لا يستطيع لأنها مجرد طيف تسيطر عليه الدهشة ولا يعرف ما إذا كان ما شاهده حقيقة أم خيالًا؟؛ ترقص جيزيل مع ألبرت بعد أن يتم طرد هانز من المكان.. تتمكن جيزيل من الرقص مع حبيبها الذى يخشى مجىء النهار لأنه سيُنهى هذا الحلم الجميل وتعود إلى قبرها من جديد.. لكن ميرثا تشعر بحبهما القوى وتعفو عن ألبرت وترقد جيزيل فى سلام بعد أن أنقذت حبيبها.
يوصف فن الباليه برقص القصور؛ وهو الفن الأقرب للوضع فى حالة من التجرد والتعبد؛ سواء فى تجرد البلارينا من معالم الأنوثة فهى صاحبة الجسد الخالى من الإثارة والشهوة أو فى حالة التأمل والخشوع وكأنهن يتخذن أوضاعًا للصلاة لما يتضمنه الباليه من حركات طائرة وإيماءات أقرب للطموح فى الوصول إلى السماء وكأن أصحابه مجرد أرواح هائمة نزلت إلى الأرض وتطمح فى العودة إلى أصلها؛ ولهذه الأوصاف التى يتميز بها الباليه عن غيره من الفنون جعلته الأنسب فى التعبير عن هذه القصة التراجيدية لما تحمله من مشاعر شديدة التعقيد والميلودراما فى التحول التراجيدى لبطلته من شدة الفرح إلى شدة الحزن والألم ثم الموت وتحولها بعد الموت إلى مجرد طيف وروح هائمة تحوم حول حبيبها!
لعبت آنيا أهسين بطولة “جيزيل” وأبدعت فى تقديم كل هذه التحولات المعقدة لشخصية هذه الفتاة المغلوبة على أمرها بداية من فرحتها بهذا الحبيب ثم صدمتها وحزنها وإصابتها بألم شديد؛ ولحظة قيامها من الوفاة وطوافها كروح هائمة حول حبيبها بعد أن انضمت إلى عالم “الويليس”؛ تفوقت آنيا بالأداء الحركى والتمثيلى لأبعاد شخصية “جيزيل” حتى لو تجاهل الحضور قراءة الكتيب الصغير المصاحب للعرض الذى يشرح مشاهده بالكامل؛ سوف يندمج مع هذه البلارينا الإستثنائية ويستشعر ما تشعر به من فرحة وألم؛ سحرت آنيا أعين الحضور بأدائها البديع لهذا العمل الفنى الصعب وعلى اختلاف مراحل تطور الشخصية تمكنت من السيطرة على الجمهور بأدائها الحركى والتمثيلى معًا؛ وبالتالى امتكلت مهارات إضافية ربما لا تتمتعن بها الكثير من راقصات الباليه وهى النزعة الدرامية فى معايشة قصة العمل؛ ليست مجرد بلارينا تؤدى مجموعة من الحركات الراقصة بينما نطق جسدها بما عجز أن يبوح به لسانها؛ من شدة الصمت تمكنت آنيا أن تصبح بلارينا ناطقة.. انتقلت برقصة الباليه من مجرد فن يتسم بمجموعة من الحركات المعروفة المكررة فى صمت ووقار شديد؛ إلى فن درامى تحكى فيه الحركة والإيماءة والنظرة شعورها الداخلى بخفة روح هائمة تطوف حول مأساتها برشاقة واقتدار.
انسجم هذا الأداء الرفيع من البطلة ومجموعة المشاركين من فريق باليه أوبرا القاهرة مع الصورة البصرية للعمل سواء بتصميم الديكور للمهندس محمد الغرباوى أو الملابس والإضاءة للمهندس ياسر شعلان ليخرج عملا فنيًا مكتمل الأركان على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا، إخراج وتصميم آرمينيا كامل.