الخميس 10 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

على جدران المعابد وصفحات الكتب

رحلة الفلاح المصرى من «الوسية» إلى الــ 5 فدادين

وهب الله مصر نهرًا يفيض بالحياة على ضفتيه، وأرضًا خصبة تنبت من كل زوج بهيج. سخر لها أناسًا طيبين يرعونها بقلوبهم وأرواحهم الطاهرة قبل أيديهم التى شق الماء والطين لهما طريقًا على جلودهم، فصارت أكثر خشونة وصلابة، أو كما يقال بالدارجة “إيد شقيانة”. جعل الله الخير فيما تزرعه، قامت حضارات وسقطت حضارات واندثرت حضارات، وبقيت الأرض بخصوبتها أمًا حنونًا وأبًا قويًا يزرع ويحصد ليأكل الآخرون، وإن عزّ الماء وعزّ المطر لا يكفّان عن العطاء، الفلاح المصرى وأرضه الطيبة بينهما آلاف الروايات تُحكى على مر التاريخ، وليس فقط ما ضمته المكتبة العربية من كتب ولا ما قدمته الدراما العربية.



كانت حياة الفلاح المصرى بما فيها من كد وكفاح وبؤس فى كثير من العصور مادة ثرية للكتابة، بداية من مصر القديمة حين كتب أحد الكُتاب على جدران المعابد معاناته وشكواه من الظلم الذى يتحمله، قائلًا للتاريخ: “هلا استعدت فى خيالك صورة الزارع حين يُجبى منه عُشر حبّه؟ لقد أتلفت الديدان نصف القمح، وأكلت أفراس النهر ما بقى له منه، وهاجمتها فى الحقول جماعات كبيرة من الجرذان، ونزلت بها الصراصير؛ والماشية النهمة، والطيور الصغيرة تختلس منها الشيء الكثير؛ وإذا غفل الفلاح لحظة عما بقى له فى الأرض، عدا عليه اللصوص”.

«زينب»

رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل تعد الرواية العربية الأولى، وصدرت عام 1913، وذلك على الرغم من ظهور نحو 167 رواية فى مصر قبل «زينب» بين عامى 1834 و1914، لكن مؤرخى الأدب اعتبروا ما قبل رواية«زينب» سلسلة من التجارب غير الناضجة، ظهرت الرواية دون أن تحمل اسم كاتبها، وإنما كتب “فلاح مصري”، لكنها لم تجد رواجًا كبيرًا، وفى الإصدار الثانى نشرها باسمه بعد أن حققت نجاحًا.

وتدور أحداث الرواية حول مجموعة من الريفيين يعيشون تحت ظل الاستعمار، ويعانون من ويلاته، يصور الأديب حياة البؤس التى يعيشها أهل الريف، ويصور الفتاة الريفية التى تقبل عرض الزفاف الذى يرغمها والدها عليه، رغم حبها لشخص آخر. تدور أحداث الرواية حول مجموعة من الأشخاص، أهمهم  »زينب«، وهى فتاة ريفية بسيطة، تحب ابن قريتها “إبراهيم”، لكن والدها يزوجها إلى “حسن”، وهو أعز أصدقاء حبيبها “إبراهيم”.

فى هذا المحور يصور “هيكل” الحياة التى يعيشها أهل الريف تحت ظلم الاستعمار، حيث ساد الجهل فى القرية حتى أن الرجل يزوج ابنته دون رضاها إلى شخص لا تريده، تعيش زينب بعد ذلك حياة مأساوية صعبة تبدأ عندما يسافر “إبراهيم” إلى السودان ويراسل والده بعد فترة من الزمن ليخبرهم بأنه الآن بخير ونسى أمر الماضي، ثم تبدأ مرحلة صراعها مع المرض الذى ينهش فى جسدها بسبب حزنها وألمها لفراق “إبراهيم”.

«الوسية»

لأن الفلاح المصرى كان جزءًا من التاريخ، فقد كان شاهدًا على عصور وسياسات وأنظمة ارتكزت قوانينها على الأرض وخيرها وثروتها الزراعية والحيوانية ومواردها البشرية، وكيفية الاستئثار بخيراتها واحتكارها لطبقات بعينها، ظهر النظام الإقطاعى منذ بداية الدولة الإسلامية ومرورًا بعهد الأيوبيين والمماليك، ثم ظهر الالتزام حتى أتى عصر محمد على الزارع الوحيد والصانع الوحيد، كانت هناك أراضٍ تُسمى “الوسية” أو “الأوسية”، وهى حق خالص للملتزمين من كبار الأغنياء وأمراء المماليك، كان الفلاحون يعملون فى هذه الأراضى بجوار أراضيهم دون حق فى الأجرة أو الحصاد. وفى العصر الحديث، حقق محمد على باشا طفرة كبيرة فى الإصلاح الزراعي، وفى شق الترع وأعمال الري، فضلًا عن القناطر التى أنشأها، وأهمها القناطر الخيرية. ورغم ذلك، ظل الفلاح المصرى يعيش حالة من البؤس، وكانوا يُعاملون بأشد أنواع المهانة بالكرباج وغيرها، وفوق هذه المظالم، فرض عليهم محمد على جباية الضرائب بصورة مالية ليست من الحصاد، والاحتكار الذى فرضه عليهم، فكان “يمتصّ” دماءهم من الجانبين!

و”الوسية” واحدة من أجمل السير الروائية العربية، كتبها خليل حسن خليل ليرصد فيها أحوال الناس والسلطة، والملاك والعبيد، والأرض والانتماء، والحراك الاجتماعى وعوامل التغيير، وليؤرخ لمصر فى العهد الملكى اجتماعيًّا وسياسيًّا، كاشفًا مجتمع المستغلين الطفيليين الذى جعل البلاد “وسية”، يتسلط فيها الملاك الأجانب وأصحاب السلطة على الفلاحين والمعدمين.

تسرد لنا “الوسية” القصة الممتعة لكفاح شاب قروى حُرم من التعليم، فعمل فى وسية الخواجة تحت وطأة الفقر، ثم تطوع فى الجيش وثابر وثقّف نفسه بنفسه حتى حصل على الليسانس فى القانون، لكن تفوقه لم يؤهله ليشغل وظيفة مناسبة فى سلك القضاء أو التدريس فى الجامعة؛ لأنه فلاح ابن فلاح، إلا أنه لم يستسلم، وسافر فى بعثة إلى الخارج ليُعد للدكتوراه.

“ثلاثية الوسية” التى تشمل: “الوسية”، “الوارثون”، و”السلطنة”، عمل يستحق القراءة. فاز الجزء الأول منها بجائزة أحسن رواية عام 1984، كما جرى تحويله إلى مسلسل إذاعى ناجح بطولة أحمد زكي، ومسلسل تليفزيونى شهير عام 1990 من إخراج إسماعيل عبد الحافظ.

ثورة ضد الاقطاع  

وسقط الإقطاع ونظامه بثورة 23 يوليو التى على أثرها تجرد الأمراء والإقطاعيون من نفوذهم، وصدر قانون الإصلاح الزراعى وإعادة توزيع ملكية الأراضى الزراعية من يد الإقطاع إلى صغار الفلاحين، وإنشاء جمعيات الإصلاح الزراعى والهيئة العامة للإصلاح الزراعى لتتبدل أحوال الفلاحين، وألهمت السياسات الجديدة كتاب الرواية، فأثروا المكتبة العربية بالعديد من الروايات، أهمها:

الأرض  

رواية “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوى وصفت أدق التفاصيل فى حياة الفلاح المصرى ومأساته الأزلية للحصول على قوت يومه، مع ربط هذا الواقع المؤلم بالظروف السياسية التى كان يعتبرها أحد أسباب قهر المواطن المصري، تناولت الرواية حياة الريف المصرى فى منتصف القرن الماضى بكل تفاصيله: علاقاته مع المدينة، أسلوب معيشته، علاقة أهل الريف مع بعضهم، موقفهم من حكومتهم التى كان يتزعمها حزب الشعب آنذاك، ارتباطهم بماضيهم المتجسد بمشاركتهم فى ثورة عرابى 1919 ومحاولة إحيائه عبر تأييدهم لحزب الوفد، كما يصف تعلقهم بأرضهم، إذ أن وجودها يعنى استمرار وجودهم، وما يميز هذه الرواية، أن الشرقاوى قد صوّر القرية بأكملها وبمختلف شخصياتها، بدءًا من العمدة وانتهاءً بالعاطلين عن العمل الذين لفظتهم المدينة بعيدًا ليعيشوا مهمشين فى الريف، فجاء الوصف شاملًا للقرية وأشخاصها.

الفلاح  

ثم جاءت رواية “الفلاح” لتصور زاوية أخرى، لتخرج عن تصوير الفلاح فى صراعه ضد الظلم فى مجتمع ما قبل الثورة، إلى مجتمع ما بعد الثورة، مجتمع الاشتراكية والإصلاح الزراعي، إن أعداء الاشتراكية تسللوا إلى مناصب قيادية فى القرية وما زالوا يستغلون الفلاح ويحجرون على حريته ويحرمونه من حقوقه كما فعل أجدادهم، وتصور الرواية لوعة المثقف القاهرى إذ تنكشف له هذه الحقيقة.

شيء من الخوف  

وظهرت رواية “شيء من الخوف” لثروت أباظة، الأكثر جدلًا على الإطلاق، سنة 1959، وصدرت فعليًا سنة 1960، منذ تلك اللحظة حققت الرواية نسبة مبيعات قال عنها ثروت أباظة نفسه فى كتابه “ذكريات لا مذكرات” إنها فاقت حدود التوقعات، وكانت الأعلى طلبًا وتداولًا فى مختلف البلاد العربية، بخاصة سوريا والسعودية والأردن، وقد كانوا جميعًا فى خضم خصومة سياسية مع عبد الناصر على أثر قضايا مختلفة، ويرجع ذلك ربما إلى ما فى الرواية من إسقاطات ورموز، وهو ما عزاه البعض لحكم جمال عبد الناصر. انهالت عروض دور النشر المتعددة بعروض أكثر سخاء للحصول على حقوق طبع الرواية، بينما كانت السلطة الناصرية غارقة فى أزماتها الداخلية والخارجية، إلى أن قرر حسين كمال تحويل الرواية إلى عمل سينمائي، وبطلب من أباظة نفسه، أسند مهمة إعداد السيناريو إلى عبد الرحمن الأبنودي، وكانت هذه هى نقطة الجدال الذى ما زال مشتعلًا حتى الآن، ماذا كان يقصد ثروت أباظة “فى شيء من الخوف”؟ هل كان يرمز تحديدًا إلى جمال عبد الناصر أم إلى الحقبة الملكية؟ أو كما قال “نجيب محفوظ” حينما تدخل بوزن اسمه وسمعته الأدبية كوسيط أمام السلطة لحل النزاع وقال: “إنها ترمز إلى أى حكم ديكتاتورى فى أى زمان ومكان.”

 

 

 

 

خاصة أن الرواية وما بها من أحداث تختلف عن النمط الذى تم عرضها به فى السينما. ففى الرواية يبدو عتريس طرفًا ثالثًا لقصة حب تجمع بين فؤادة وطلعت ابن فايز بك صديق الأستاذ حافظ والد فؤادة، وأمه السيدة تفيدة، المرأة المثقفة طيبة المعشر التى اعتنت بعقل فؤادة وأمدتها بالكتب من مهدها؛ وهو ما سيكون له أثر إيجابى فى حياتها، حيث وقوفها أمام تجبر عتريس رافضة الخضوع والاستسلام، بينما منذ اللحظات الأولى فى أحداث الرواية وحتى نهايتها تظهر شخصية عتريس على أنها شخصية تشربت مواطن الذل والقسوة منذ نعومة أظافرها، فنجده يضرب البائع ويوقف المارين بالطريق ويسطو عليهم تحت التهديد بوزن اسم جده الذى تشرب منه القسوة والتجبر.

وبحسب كتاب “الفيلم السياسى فى مصر” لمحمود قاسم، فإن صبرى عزت، الذى أعد الرواية سينمائيًا، أراد أن يفرد مساحة للظروف والبيئة المحيطة المساهمة فى نشأة الشخص المتجبر أو الديكتاتور. وبحسب ما قاله ثروت أباظة نفسه فى كتابه “ذكريات لا مذكرات” أنه تم استدعاؤه فى مكان ما يتبع لجهة سيادية وقد وقع على ورقة تفيد بأنه لا يقصد بتلك الرواية التعرض للسلطة السياسية القائمة فى مصر فى ذلك الوقت، وإنما أراد إسقاط الأحداث على الاحتلال والاستعمار بعد تحويلها لفيلم سينمائي، حتى أعلن مخرج الفيلم صراحة أنه لا علاقة للفيلم وأحداثه بأى إسقاط سياسي.

وسواء قصد ثروت أباظة أم لم يقصد عبد الناصر بشخصية عتريس، فالغريب فى الأمر أنه نجح فى تصوير حقيقة حياة صعبة تعيشها قرى فى مصر هبة النيل، وهى أن الماء لا يصلها حد الموت عطشًا، وهو ما أوضحه بالفعل منتج الفيلم صلاح ذو الفقار حينما بحث عن موقع تصوير لمشهد فتح فؤادة الهويس ورى الأرض الجافة، وظلوا يبحثون عن قرية تتحقق فيها مواصفات السيناريو، وبعد بحث كبير وجد صلاح ذو الفقار قرية فى محافظة القليوبية تدعى سنديون، وللمصادفة أن أهل القرية فعلًا لم يكن عندهم هويس، وكانت حياتهم فى ضنك بسبب عطش وجفاف أراضيهم لعدم وجود هويس ينقل لهم المياه، الإنتاج اتفق مع عمدة البلد أنه سيبنى لهم الهويس بناءً حقيقيًا، ويحل المشكلة إلى الأبد للقرية، لكن بشرط أن أهل القرية نفسهم يصورون كأهل القرية فى الفيلم لحظة فتح الهويس، ثم جاءت فكرة المخرج حسين كمال أن تقوم شادية بتشغيله وفى اللحظة التى كانت شادية تفتح فيها الهويس فى الفيلم ببطء شديد كانت قلوب أهل القرية متعلقة بأول نقطة مياه، وكانت صورة المياه وهى تروى الأرض العطشانة الشرقانة المحجرة حقيقية، وكان رقص الناس داخل المياه وفرحتهم الهستيرية ليست تمثيلًا، بل إنها فرحة حقيقية.

الحرام

وتأتى رواية “الحرام” ليوسف إدريس لتتناول قطاعًا هامًا من قطاعات الشعب المصري، وهو قطاع “عمال التراحيل” أو “الغرابوة”، وهم العمال الزراعيون الذين يعملون ليس فى مناطق سكناهم، وإنما ينقلون كمجموعات للعمل فى مناطق بعيدة فى مواسم معينة للزراعة. ويصف “إدريس” فيها حياة الترحيلة ومدى قسوتها، كما يرينا ما هى العلاقات التى كانت تسود بينهم وبين أهل التفتيش، ويسلط الضوء على هذه الشريحة بالذات لأنها الطبقة الكادحة العاملة التى حقوقها مهضومة ومنسية.

تصور الرواية جوانب الظلم الاجتماعى الذى تعيشه طبقة مهمشة من طبقات المجتمع، وذلك من خلال بيان أن الحرام الذى وقعت فيه بطلة القصة يندرج فى دائرة حرام أكبر يقوم به أهل البلد الفقراء مع عمال التراحيل الذين هم أفقر منهم، فهو الحرام الحقيقي. وقد قدمت الرواية من خلال إطار فنى محكم ولغة شديدة العذوبة.

تدور أحداث الرواية فى إحدى بقاع الريف المصرى شمال الدلتا فى أربعينيات القرن العشرين. تبدأ الأحداث بالعثور على جثة طفل حديث الولادة تحت شجرة الصفصاف الواقعة بجانب ترعة القرية بواسطة الغفير عبد المطلب، الذى ارتبك كثيرًا واضطرب تفكيره بعد أن وجد جثة الصغير، ففكر فى إلقائها فى الترعة حتى يهرب من المسئولية، ولكن لم يحالفه الحظ، فبدأ أهل العزبة بالظهور واحدًا تلو الآخر، وعُرف أمر الصغير فى جميع أرجاء التفتيش. وبعد فحصه جيدًا، تبين أنه مات مخنوقًا، ووصل الخبر إلى المأمور فكرى أفندي، الذى سرعان ما اتجه إلى المكان الذى وجدوا فيه الصغير، هاله المنظر ودارت به الأرض، فلم يكن من المعتاد على أهل العزبة مثل هذه الحادثة التى أثرت فيهم جميعًا وزرعت الشك فى قلوبهم، فمثالية أهل العزبة وعدم وقوعهم فى أخطاء مثل هذه لم تكن سوى ظاهرية فقط.

سرد الكاتب حكاية واحدة من ضمن كثير من المآسى التى يعانى منها هؤلاء المساكين، والتى تزامنت بدورها مع حكاية لندة بنت باشكاتب العزبة مسيحة أفندي، الذى انتابه الشك فى ابنته بمجرد معرفة أمر جثة الصغير، لأن لندة قد تجاوزت سن الزواج بفترة تحت وطأة العادات والتقاليد، فراودته الشكوك حولها، إلا أنها لم تكن أم الطفل، ولكنها كانت خاطئة بدورها فقد تورطت فى علاقة غير مشروعة مع أحمد سلطان، موظف التفتيش، وفاجأت الجميع بهروبها معه وزواجهما.