أيمن عبد المجيد
هل أتاك حديث الانتصار؟!
تشاء الأقدار أن تحل الذكرى الـ«51»، لانتصار أكتوبر المجيد، والعالم يموج بالصراعات، وفى القلب منه الشرق الأوسط، الذى يعانى آلام مخاض خارطة جديدة لتوازنات القوى الدولية.
باتت المنطقة المبتلاة بثرواتها ومكانتها الجيوسياسية، ساحة مفتوحة لصراعات القوى الدولية، ولا عجب، فعلى مدار التاريخ كانت مطمعًا وهدفًا لمن يمتلك القوة، من الهكسوس إلى الكيان الصهيونى، ذلك الاحتلال الوظيفى الذى غرسه الاحتلال البريطانى قبل أن يحمل عصاه ويرحل، لرعاية مصالح القوى العظمى بالمنطقة.
مُخطئ مَن يظن أن الحروب التى تستهدف الوطن انتهت؛ بل تدور رحاها الآن، وتقرع كل يوم طبولها فى جبهات مغايرة وبأسلحة أكثر تأثيرًا وأقل كلفة، عبر وسائل إعلام معادية، تستخدم فيها قنابل بث اليأس، وقذائف تزييف الوعي وقاذفات الشائعات.
لذلك وجبت المواجهة بتعزيز حصون الوعى:
أولًا.. أين نحن مما يحدث حولنا؟
تنتهج مصر على مدار تاريخها الحديث سياسة التوازن الاستراتيجى حفاظًا على مقدراتها وأمنها القومي، وتعزيز قدراتها الشاملة ببناء شراكات مع كل القوى الدولية الفاعلة.
تستثمر مصر قدراتها وعلاقاتها فى مساندة القضايا العربية والإفريقية، والتصدى للعدوان عليها، ولقد أحبطت مصر مخطط تهجير أهالى غزة إلى سيناء، وتواصل دفاعها عن حق الشعب الفلسطينى فى بناء دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
تلك السياسة المصرية ليست وليدة اليوم، بل راسخة فى ضمير الأمة منذ الجمهورية الأولى عام ١٩٥٢ وحتى الجمهورية الجديدة.
يروى الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى أوراقه المنشورة بالعدد الأول من مجلة أكتوبر الصادر فى نهاية أكتوبر 1976، كيف أُغلقت كل الأبواب فى وجه مصر التى طلبت شراء سلاح لتعزيز قدرات الجيش المصرى فى أعقاب ثورة ٢٣ يوليو.
أمريكا تجاهلت طلب مصر شراء أسلحة منها بإيعاز من بريطانيا التى كان لديها فى مدن القناة ٨٥ ألف جندى.
لكن مصر نجحت بالعمليات الفدائية فى إجبار بريطانيا على توقيع اتفاقية الجلاء، وتنفيذها فى 1956، وللإبقاء على نفوذها وشغل الفراغ الذى خلفته، أسست بريطانيا حلف بغداد الذى ضم تركيا والعراق وإيران وباكستان عام ١٩٥٥، فواجهت مصر ذلك الحلف ورفضته وأسست مجموعة دول عدم الانحياز.
رفضت مصر الدخول فى أحلاف، ورفضت إقامة أى قواعد أجنبية على أراضيها أو أى أرض عربية، فكان رد بريطانيا استخدام الاحتلال الصهيونى الذى غرسته بالمنطقة لخدمة أهدافها.
جددت مصر مساعى البحث عن مصادر تسليح حتى حصلت على السلاح الروسي، وتوالت الهجمات على مصر.. العدوان الثلاثى ١٩٥٦ ثم عدوان ١٩٦٧.
انتفضت مصر قيادة وشعبا، داوت الجروح واستعادت بناء القدرة العسكرية، تحول اقتصاد الدولة للمجهود الحربى، كل مواطن تحول إلى مقاتل فى ميدانه، عمل وعلم وإيمان، تخطيط وتدريب ومعارك استنزاف وخداع استراتيجى أثمر نصر أكتوبر العظيم.
المدقق هنا يكتشف الآتى من دروس التاريخ:
١- إسرائيل كيان غرسه الاحتلال القديم لمواصلة خدمة أهدافه بالمنطقة ويوظفه وقتما يشاء، ونصر أكتوبر إعجاز لأنه انتصار على إسرائيل والقوى الدولية التى تحميها وتدعمها استخباراتيًا واقتصاديًا وتسليحيًا.
٢- ترفض مصر بشكل قاطع منذ تأسيس الجمهورية الأولى وحتى الجمهورية الجديدة، الانخراط فى أحلاف دولية، ولا تسمح مطلقًا بوجود أى قواعد أجنبية على أراضيها.
ثانيًا: هل نمتلك القدرة على حماية أمننا ومصالحنا؟
الدول تقاس قدرتها بمحصلة القوى الشاملة، اقتصادية - عسكرية - بشرية - الموقع الجغرافى وأهميته، قوة النسيج الوطنى وتلاحم مكوناته.
القدرة الاقتصادية:
من أهم الملفات التى يستخدمها الأعداء، للنيل من الوطن، عبر محاولات حصار اقتصادى، لتحقيق جملة أهداف:
- عرقلة بناء قدرات الدولة، فقوة الاقتصاد أساس لتسريع معدلات التنمية ومستلزمات التسليح والقدرة الإنتاجية وغيرها.
- تضليل المواطنين بتفسيرات كاذبة لأسباب التحديات الاقتصادية، بزعم أن السبب الإدارة الحكومية، ومن ثم خلق قناعات مزيفة تحرض على حراك جماهيرى يستغل لتدمير الدولة من الداخل.
- أخطر التهديدات، تغييب الوعى، فتحديات الاقتصاد المصرى بوضعه الحالى ليست ثمرة إدارة حالية، بل بناء تراكمي، أسباب محلية ودولية خلفتها العقود الماضية.
خمسة حروب خاضتها مصر منذ عام ١٩٤٨ وحتى عام ١٩٧٣، أعقبتها التوترات السياسية بين عامى ٢٠١١، ٢٠١٣، وسنوات الحرب ضد الإرهاب، ولتلك الحروب والأحداث تكلفتها الاقتصادية والإنتاجية.
الحرب ليست معركة عسكرية فقط، بل تعبئة كل قوى الدولة الشاملة للمجهود الحربى، وتبعات القتال.
المُقاتل المصرى لم يهزم عام ١٩٦٧، فهو لم يخض المعركة، بل كان ضحية قرار حشد القوات فى سيناء بلا هدف استراتيجي، وقرار الانسحاب العشوائى إلى الضفة الغربية بدون خطة، والدليل أنه الجندى ذاته الذى قاتل فى معركة العش بعد ساعات وقهر المستحيل فى أكتوبر ١٩٧٣.
الاقتصاد المصرى هو الذى أصيب بانتكاسة، فما لبث أن بدأ يلتقط أنفاسه، من تبعات العدوان الثلاثى وتعويضات ملاك أسهم قناة السويس ١٩٥٦، حتى عانى تبعات عدوان ١٩٦٧، وسنوات حرب الاستنزاف وتحويل الاقتصاد للمجهود الحربى ثم محاولات التعافى التى امتدّت لما بعد عام ١٩٧٥.
بحسب الدكتور «جلال أمين» فى كتابه «قصة الاقتصاد المصري»، دفعت مصر تعويضات قيمتها 67.5 مليون جنيه إسترلينى، منها: 27.5 مليون لمساهمى شركة قناة السويس، و٢٥ مليونا للبريطانيين الذين أممت ممتلكاتهم و١٥ مليونا للسودانيين الذين غرقت أراضيهم خلال بناء السد العالي.
وما إن استعاد الاقتصاد عافيته وتحسنت معدلاته مع الزيادة السكانية الملتهمة لمعظم موارده، حتى اندلعت التوترات السياسية فى ٢٠١١، بانعكاساتها الداخلية والإقليمية، ومعركة القضاء على الإرهاب، واشتعال المحيط الإقليمي.
فى أحداث ٢٠١١، وتبعاتها تكبدت الدولة ٤٥٠ مليار دولار خسائر، فيما صرح الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ يومين خلال حفل تخريج دفعة جديدة من طلاب أكاديمية الشرطة، أن التوترات فى البحر الأحمر تسببت فى خفض عوائد قناة السويس بنسبة ٦٠٪ أى ما يعادل ٦ مليارات دولار.
وفى ظل كل هذه التحديات نجحت مصر بقيادة حكيمة تنتهج سياسة التوازن الاستراتيجى وفق محددات الأمن القومى المصري، أن تضاعف من القدرة العسكرية للدولة، من خلال تنويع مصادر التسليح وامتلاك أحدث الأسلحة عالميًا، ما عزز من قدرات مصر الدفاعية، وقوة ردع التهديدات والعدائيات بامتداد دوائر أمننا القومى.
ولعل الذين تساءلوا من قبل لماذا تشترى مصر سلاحا فى ظل الأزمة الاقتصادية، جاءتهم الإجابة فى الأشهر الماضية وهم يشاهدون تنامى لهيب الصراعات فى الإقليم. أزيدهم.. لا تنمية بلا أمن ولا أمن بدون قوة ردع، وبفضل الله نملكها وتتعاظم.
استطاعت مصر أن تعزز من القدرة البشرية، ببرامج رعاية صحية، وتنمية المنظومة التعليمية، واستحداث جامعات تكنولوجية حديثة، وتطوير البنية التحتية للدولة، وتنفيذ مشروعات تنموية قومية صناعية وزراعية.
الأحد الماضي، تشرفت بحضور حفل تخريج طلاب أكاديمية الشرطة.. مستوى احترافى من التدريب والتأهيل، انعكس فى عروض الطلاب، قدرة تنظيمية وكفاءة قتالية ولياقة بدنية، وامتلاك أحدث المعدات التى تمكن من مداهمات ناجحة للعناصر الإجرامية.
وعكست كلمة اللواء محمود توفيق وزير الداخلية رؤية استراتيجية عميقة لتعزيز الأمن، بين المكافحة والمواجهة الاستباقية القائمة على رصد المتغيرات والتحديات التى خلفتها الصراعات فى الإقليم.
واليوم بإذن الله يشرفنى مشاركة خريجى الكليات العسكرية احتفالاتهم، وما هؤلاء الشباب الأحفاد إلا أبطال لآباء وأجداد قاتلوا على مدار التاريخ لتبقى مصر آمنة مطمئنة.
أتمنى تدريس التاريخ العسكرى المصري، منذ نشأة الجيش فى الدولة القديمة، مرورا بالحقب التاريخية برؤية علمية سياسية، تصطحب الدارس، إلى الحقب الزمنية، بكل أبعادها ذات الصلة والعلاقة الطردية بين قوة الدولة وجيشها، والتأثير والتأثر؛ لبناء ثقافة تعزز حصون الوعى، لا مجرد عرض للمعارك ونتائجها.. فما أحوجنا إلى روح أكتوبر وأعوام الانتصارات التاريخية!
تحية إجلال وتقدير لأرواح شهداء مصر فى كل معاركها الوطنية، أبطال حروب «الاستقلال»، «التحرير» و«التطهير» و«التعمير»..
حفظ الله مصر قيادة وجيشًا وشعبًا.