الخميس 30 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
روزاليوسف وزيارة خاطفة لنسيم باشا!

روزاليوسف وزيارة خاطفة لنسيم باشا!

لم يكن عداء روزاليوسف - السيدة والجريدة والمجلة - لرئيس الوزراء توفيق نسيم باشا عداء شخصيًا ولم تكن حملة روزاليوسف المستمرة عليه لأسباب حزبية ضيقة بل كانت من أجل تلكؤه فى إعادة دستور سنة 1923 والحقيقة أن روزاليوسف كانت تكن للرجل كل احترام وتقدير لشخصه، وقبل عدة سنوات من توليه رئاسة الحكومة كتبت عنه روزاليوسف مقالا ممتعا عنوانه «دولة محمد توفيق نسيم باشا» حكت فيه جوانب شخصية وإنسانية عنه وكتبت تقول: «دولته يقرأ معظم الصحف اليومية والأسبوعية ولكنه لا يهتم بما يكتب عنه مادام ضميره مستريحًا، ويروى عنه أيام وزارته الأولى سنة 1920 وعقب سقوطها وقد اشتدت حملات الصحف عليه، أن حاول بعض أقاربه منع وصول الصحف إليه، لكى لا يغضبه ما فيها، ولكنه ألح فى إحضار الصحف وقال لمن معه: ماذا يهمنى؟ لهم دينهم ولى دين».!



وتحكى السيدة روزاليوسف فى مقال عنوانه «للذكرى فقط: رؤساء الوزراء الذين قابلتهم» فتقول عن نسيم باشا: هو ثانى رؤساء الوزارات الذين قابلتهم، وكان دولته فى ذلك الحين صاحب دولة فقط، وكانت الروايات التى تروى عن زهده وتعبده ورجعيته لا أول لها ولا آخر، فخيل إلىّ أنه من أولياء الله الصالحين الذين يحج الناس إلى بيوتهم، وكانت مقابلتى له عام 1935 فى وزارته الأخيرة وقد ذهبت لمقابلته بدافع من دوافع المهنة.

وطلبت إلى مدير مكتبه تحديد موعد للمقابلة، وكلى شك فى إجابة هذا الطلب، نظراً لأنى سيدة، ولأن دولته - كما كان يقال - يفقد شجاعته كلها إذا قابل سيدة لفرط تقشفه طبعًا!! ولكنى فوجئت بتحديد الموعد فاعتزمت أن أسجلها لدولته ظاهرة جديدة تستحق التقدير.

وذهبت فى الموعد المحدد بالضبط وإذا بسكرتير دولته يهرع إلى مقابلتى وهو يقول: الحمد لله انك جيتى فى الميعاد أنا كنت خايف أحسن تتأخرى تبقى حكاية، لأن دولته رجل دقيق جدا!

وكنت قد أعددت العدة لهذه المقابلة فارتديت ملابس سوداء اللون وأسبلت على وجهى قناعاً كثيفًا، أعنى أننى ذهبت بملابس من طراز القرن التاسع عشر حتى تتلاءم مع تقوى «نسيم باشا» وزهده.

وما أن دخلت إلى مكتبه، حتى نهض واقفًا وعلى شفتيه ابتسامة باهتة غامضة، وتحرك حتى دنا من زاوية المكتب فوقف عندها وهو مسبل الطرف خجلًا وحياء.. مطرقًا كأنما استحال إلى عذراء تغادر خدرها للمرة الأولى لمقابلة خطيبها.

وبعد التحية المألوفة دعانى إلى الجلوس فجلست أمامه وطرقت الموضوع الذى قدمت من أجله، فكان يتحدث إلىّ وهو ينظر إلى الأرض كأنما يتحدث إلى إنسان قبع تحت مكتبه!

كان يتحدث فى اقتضاب تشوبه لهجته اهتزازات يظنها من لايعرفه أنها من تأثير الخجل والاضطراب حتى يكاد يتوهم محدثه أنه هو رئيس الوزارة وأنه سيد الموقف أيضًا.

ولكنى لم أخدع بهذا الحياء المصطنع، بل أدركت بعقلى الباطن أن هذا الحياء يستر خلفه المكر والدهاء والخبث المطبق وتيقنت من أن وراء هذا السكون نفسًا تضطرب فيها عوامل تناقض ما يتظاهر به على خط مستقيم!

وبارحت مكتبه بعد دقائق فشعرت كأنى خرجت من أمام أحد قضاة التفتيش الإسبانية أو أفلّت من بين براثن أحد زعماء جزويت القرن الثامن عشر الذين تروى كتب التاريخ الكثير من حوادثهم، وكان الشعور الوحيد الذى خلفته هذه المقابلة فى نفسى هو شعور من نجا بحياته من خطر كان يتهددها.

وللذكريات بقية!