وأما اليتيم فلا تقهر
النبى نموذج رفيع وسيد الأيتام فى العالم

تحقيق - أشرف أبوالريش
تحتفل مصر سنويًا فى تقليد إنسانى رفيع بيوم اليتيم، هذا اليوم الذي تقدم الدولة ومؤسساتها لمسة وفاء لكل الأيتام، خاصة أبناء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم ودمائهم من أجل رفعة الوطن.
النموذج الرفيع لكل يتيم فى هذا العالم، كان النبى الكريم صلى الله عليه سلم سيد الأنبياء وسيد الأيتام.
فى البداية يقول الدكتور إبراهيم الصوفى أحد علماء الأزهر الشريف والمدرس بجامعة الأزهر:إن الإسلام كرَّم الإنسان لمطلق إنسانيته، قال تعالى: ﴿ وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِی ءَادَمَ ﴾ [الإسراء ٧٠]، وقد شمل هذا التكريم جميع النوع الإنسانى، إلا أنَّ بعض أفراده مظنة أن يُعتدى على حقوقهم، ومن جملتهم (اليتيم)فإن الإسلام أفرده بعناية ورعاية وتوجيهات خاصة، ضمانًا لحقوقه، وتحذيرًا من إيذائه بأى لون من ألوان الإيذاء. ومن هذه العناية توجيه الخطاب إلى الجناب النبوى الكريم بقوله تعالى: ﴿فَأمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾، والقهر فى الآية ليس المقصود به المتبادر إلى الذهن، وإنما يقصد (أىْ لا تَعْبَسْ وجْهَكَ إلَيْهِ)، فالإسلام لا يقبل الأدنى من القهر وهو عبوس الوجه أثناء معاملته، ولا يقبل فى معاملته إلا الفضل الذي حث عليه.
ومما يؤكد عناية الإسلام باليتيم، ما ثبت عن النبى ﷺ بقوله: «أنا وَكافلُ اليتيمِ فى الجنَّةِ كَهاتين، وأشارَ بأصبُعَيْهِ يعنى: السَّبَّابةَ والوسطى».
ففى هذا الحديث يبشر النبى صلوات الله وسلامه عليه كافل اليتيم، بأنه سيكون صاحبه فى الجنة، وبين أنَّ درجة الجوار بينهما كالتي بين السَّبَّابةَ والوسطى من أصابع اليد.
مشيرًا إلى أن كل الفضل لمن قام برعاية اليتيم، سواء كانت رعاية مادية أو معنوية، ولمن جَهِدَ لإصلاحه وحفظ حقوقه.
ومن أوجه اهتمام الإسلام باليتامى التحذير من الاعتداء على أموالهم، وقد صرَّف القرآن المجيد بيانه فى ذلك على أوجه، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِینَ یَأكُلُونَ أَموَالَ الیَتَـٰمَىٰ ظُلمًا إِنَّمَا یَأكُلُونَ فِی بُطُونِهِم نارا وَسَیَصلَونَ سَعِیرا﴾ [النساء ١٠]، يقول الإمام الفخر الرازى: «اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أكَّدَ الوَعِيدَ فى أكْلِ مالِ اليَتِيمِ ظُلْمًا، وقَدْ كَثُرَ الوَعِيدُ فى هَذِهِ الآياتِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى عَلى مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكم إنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، ﴿ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا﴾ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَها هَذِهِ الآيَةَ مُفْرَدَةً فى وعِيدِ مَن يَأْكُلُ أمْوالَهم، وذَلِكَ كُلُّهُ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِاليَتامى، لِأنَّهم لِكَمالِ ضَعْفِهِمْ وعَجْزِهِمُ اسْتَحَقُّوا مِنَ اللَّهِ مَزِيدا منَ العِنايَةِ والكَرامَةِ، وما أشَدَّ دَلالَةَ هَذا الوَعِيدِ عَلى سَعَةِ رَحْمَتِهِ وكَثْرَةِ عَفْوِهِ وفَضْلِهِ، لِأنَّ اليَتامى لَمّا بَلَغُوا فى الضَّعْفِ إلى الغايَةِ القُصْوى بَلَغَتْ عِنايَةُ اللَّهِ بِهِمْ إلى الغايَةِ القُصْوى”.

وقد جاء فى السنة النبوية المباركة عن أبى سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ النَّبِىَّ ﷺ قالَ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِى رَأيْتُ قَوْمًا لَهم مَشافِرُ كَمَشافِرِ الإبِلِ وقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَن يَأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ فى أفْواهِهِمْ صَخْرًا مِنَ النّارِ يَخْرُجُ مِن أسافِلِهِمْ، فَقُلْتُ يا جِبْرِيلُ مَن هَؤُلاءِ: فَقالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا».
كل هذا للتحذير من الاعتداء على حقوقهم أو إيذائهم بأى لون من ألوان الإيذاء.
وواجب المسلم أن يكون كما كان سيد الخلق ﷺ فى رعايته لليتامى، وحفظهم والعمل على ما يصلحهم.
وقد أحسنت الدولة المصرية فى عصر الجمهورية الجديدة أن قامت بتخصيص يوم (لليتيم) وجعلت أبناء الشهداء فى منزلة عالية وجعلت لهم اعتبارًا خاصًا فى كثير من الاحتفالات والمناسبات العامة والخاصة التي يحضرها الرئيس عبدالفتاح السيسى، والمأمول أن تتحول عنايتهم ورعايتهم إلى ثقافة وسلوك عام لدى المصريين، بما يتناسب والخلفية الدينية والحضارية للشعب المصري العريق.
من جانبه يقول الشيخ أحمد ربيع الأزهرى أحد كبار أئمة وزارة الأوقاف، أتوجه إلى المجتمع من خلال هذه الإطلالة برسائل تفتح لهم بابًا من أبواب الرحمة، وتُعد تأشيرة مضمونة للفوز بجنات النعيم بل بالفردوس الأعلى، رسائلى عن كفالة اليتيم وإكرامه والذي نختزل التذكير به والدعوة إلى الإحسان إليه فى الجمعة الأولى من شهر أبريل من كل عام ويهمل بعد ذلك، ونقول بداية :إن الله سبحانه وتعالى ذكر لفظ اليتيم فى القرآن الكريم ثلاثًا وعشرين مرة، وبالنظر فى نصوص القرآن العديدة فى شأن اليتيم، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أقسام رئيسة، كلها تدور حول: دفع المضار عنه، وجلب المصالح له فى ماله وفى نفسه، والحث على الإحسان إليه ومراعاة الجانب النفسى لديه. ولقد وصى الله عزوجل باليتامى بعد أمره لنا بعبادته وبر الوالدين فقال: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) [النساء: 36] ومن أوائل ما تنزل من القرآن المكى كقوله تعالى (أَرَأيتَ الّذِى يُكَذّبُ بالدّينِ * فَذَلِكَ الّذِى يَدُعُ اليتيمَ * ولا يحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسكِينِ) [الماعون: 1-3] حيث وصف المكذب بالدين والآخرة أنه يطرد ويحرم اليتيم حقه.
وقال الأزهرى ولنتأمل قول الله تعالى فى سورة الضحى (فَأمَّا اليَتِيم فَلاَ تَقهَر). والذي علق عليه الإمام ابن كثير بقوله: فلا تقهر اليتيم: أى لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به، وكن لليتيم كالأب الرحيم. وقال تعالى ممتدحًا حال الصالحين فى سورة الإنسان بقوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان :8]، قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: أى يطعمون الطعام على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. ولقد بشر الرسول ﷺ كافل اليتيم بقوله: “أَنَا وَكافِلُ اليَتِيْمِ فِى الجَنَّةِ هَكَذا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُما” [رواه البخاري]، وقال ﷺ” من ضم يتيمًا بين مسلمين فى طعامه وشرابه حتى يستغنى عنه وجبت له الجنة” [رواه أحمد]، وعلى العكس قال تعالى موبخًا كفار قريش ومن على شاكلتهم (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) [الفجر:17]، كما جعل النبى -ﷺ- أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ من السَّبْعَ الْمُوبِقَات مع الشرك والسحر والقتل . و أضاف تأمل هذا المشهد لرجل جاء إلى النبى -ﷺ- يشكو من قسوة قلبه وشدته على الناس، فقام النبى بتشخيص علة الرجل ومرضه ثم وضع له علاجًا شافيًا فعن أبى هريرة: أن رجلاً، شكا إلى رسول الله -ﷺ- قسوة قلبه، فقال له: “إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم” [رواه أحمد].

رسالتي لكم: عليكم بيتامى الأمة فهم الرحمة كل الرحمة، البركة كل البركة، السعادة كل السعادة، لمن يغتنم الفرصة، فيبش لهم ويبتسم فى وجوههم ويمسح على ناصيتهم ويتكفل بإطعامهم وتعليمهم، وتفقد أحوالهم، فهم غراس الجنة الذي نجنى ثمرته فى الآخرة.
وحتى لا تكون رسالتي كلمات بلا صدى فإنى أقترح على الهيئات والمؤسسات العاملة فى حقل رعاية الأيتام، أن تنطلق فى تقديم خدماتها للأيتام من المدخل الأخلاقى، حيث تُوجِب على نفسها تقديم أفضلَ أشكال التربية والعناية للأطفال من خلال الرعاية الصحية والنفسية وتنمية المهارات الفكرية والعقلية، وتغذية الجانب الروحى والوجدانى، مع اتباع المنهج العلمى فى الإدارة وتقديم وسائل التوجيه والإرشاد والتأهيل والتدريب للعاملين وللأولاد من أبناء هذه الدور، ويكون ذلك من خلال توفير سكن لائق وكريم ومراكز تدريب متنوعة وقاعات للأنشطة والفنون، وملاعب رياضية مع الاهتمام بالمواهب، وتوفير نظام تعليمى يتوافق مع القدرات والمهارات المختلفة لأبناء هذه الدور، مع وضع برامج لدمجهم فى المجتمع بصورة تُسهل عليهم تَبعات الحياة مستقبلًا، مع التأكيد على أن كل هذا يتم مع مراعاة مراحل نمو الطفل من الجانب الجسمانى والنفسى والاجتماعى، وأن تعمل هذه الدور وتلك المؤسسات على الحفاظ على حقوق اليتيم بداية من حق الحضانة – حق الرضاعة – حق التسمية الحسنة – حق التسوية بين الأبناء – القدوة الحسنة – حق العلاج – حق الرياضة – حق الترفيه – حق المشاركة المجتمعية - الحق فى الحماية والوقاية من العنف - الحق فى الهُوية، مع الاعتماد على الإخصائيين الاجتماعيين والمعالجين السلوكيين والأطباء المعنيين، ومنفذى الأنشطة المختلفة من معلمين ومدربين لتحقيق ذلك. كما يجب أن نقوم برصد حقيقى للعاملين فى دور الأيتام، وإعادة تقييمهم، وتأهيلهم، واستبعاد ما لا يمكن إصلاحه منهم، وإيجاد آليات وبرامج تدريبية للرفع مهاراتهم الحياتية والفنية للتعامل مع هذه الفئة وتقدم الخدمات المختلفة لهم بكفاءة عالية وأداء مسؤول. ويجب أيضًا أن يكون هناك ميثاق مهنى وأخلاقى للعاملين فى هذه المؤسسات المعنية باليتامى، على أن يكون هذا الميثاق ملزمًا، ويخضع من يخالفه للمساءلة القانونية بل المجتمعية.
لافتًا الى ضرورة القضاء على كل الممارسات الاستغلالية لليتامى، وعدم المتاجرة بظروفهم، ومعاقبة من يقوم بهذه المخالفات، لذلك نقترح تحويل يوم اليتيم - الجمعة الأولى من أبريل- ليوم من المحاسبة لكل العاملين فى هذا القطاع، حيث يعد يومًا لتقديم كشف حساب عن عام كامل مضى، خاصة أن البعض يستغل هذا اليوم للضغط على المجتمع بقضية اليتامى للابتزاز العاطفى ثم تختفى كل الفعاليات ولا تظهر إلا فى العام التالي.
ومن أجل تحقيق ما سبق من رؤى نقترح أيضًا: وضع رؤية استراتيجية للعمل المؤسسى فى مجال رعاية اليتامى، وتوحيد الجهود المبذولة فى رعاية اليتامى، والتنسيق التام بين المؤسسات المعنية والمهتمة بهذا الأمر، والقيام بمراقبة ومتابعة مؤسسات رعاية الأيتام لضمان عدم تعرض الأولاد (النزلاء) لأى نوع من الاستغلال أو العنف فى هذه الدور، مع وجود قناة رسمية معلومة تتيح للأطفال اليتامى الذين يعيشون فى كفالة أسر بديلة – أو مع بعض الأقارب – وكذلك الأطفال فى مؤسسات الرعاية المختلفة أن يستعينوا بها عند تعرضهم لأى ممارسات ضارة بحياتهم أو صحتهم أو تعليمهم .. إلخ. ولذلك نقترح التدخل السريع لمواجهة أى خطر يتعرض له هؤلاء اليتامى ويتأتى ذلك من خلال أمرين: الأمر الأول: إنشاء “وحدة التدخل السريع” لديها القدرة على مواجهة وحل المشكلات الطارئة. والأمر الثاني: إنشاء “خط ساخن” لتلقى الاستغاثات والاستفسارات فى هذا الشأن. ونقترح إطلاق مبادرات خلاقة تهدف إلى حماية اليتامى وتوفير أفضل أساليب الرعاية لهم، مثل منع تسرب اليتامى من التعليم، ومحو الأمية، والتأهيل الحرفى والمهنى لهم، ووقايتهم من المخدرات والأفكار المتطرفة وصيانتهم من كل أشكال الانحراف، مع وضع برامج لدمج هؤلاء اليتامى فى المجتمع دمجًا سلميًا وكسر حواجز الخوف من بعضهم تجاه المجتمع، ونزع عوامل الكراهية تجاه هذا المجتمع من نفوس البعض أيضًا، أى دمجهم بشكل صحي وآمن لهم ولمجتمعهم، مع إنشاء كيانات للتدريب المهنى والحرفى للأطفال اليتامى خاصة للمتسربين من التعليم. وإنشاء ناد للمواهب، يعمل على ثقل مهارات النابغين من هؤلاء الأطفال اليتامى وفتح آفاق أوسع لتنمية هذه المواهب، ويجب أن نهتم اهتمامًا خاصًا بوضع برامج خاصة لليتامى من ذوى الاحتياجات الخاصة والعمل على دمجهم فى الحياة العملية والتعليمية، وتذليل كافة العقبات التي تمنعهم من الاندماج الكامل فى المجتمع.