
ثروت الخرباوى
المعبر والكمين: حين تُستخدم غزة لفتح ثغرة فى جدار مصر
بهذه العبارة العميقة، اختصر ابن عطاء الله السكندرى جوهر كثير من المشاهد التى تبدو فى ظاهرها رحمة، لكن يُراد بها الفوضى.
أمام أعيننا الآن قافلة سُمّيت “قافلة الصمود”، محمّلة بلافتات الإغاثة، ومُسيّرة من بلاد المغرب العربى إلى بوابة مصر الشرقية عند رفح، عنوانها إنسانى، وقضيتها عادلة، والمشهد مؤثر… لكن السؤال الحقيقى ليس عما تحمله القافلة، بل: من يحرّكها؟ وما الهدف الحقيقى من هذه الحركة؟
نحن لا نتحدث هنا عن شاحنات تمر، بل عن مشهد سياسى متقن الصنع، يرتدى ثوب الإغاثة، ويُخفى وراءه خريطة مصالح وأطماع، فقافلة الصمود ــ تجاوزا ــ التى انطلقت من المغرب العربى ليست بريئة كما تبدو…
فغزة لا تُنصر بالمواكب المتلفزة، ولا بالاحتكاك الرمزى على المعابر، وغزة تعرف جيدًا من يمدّ لها يد النجدة، ومن يركب مأساتها ليصنع منها منصة ارتداد نحو القاهرة.
نعم، فلسطين تسكن فى قلب كل عربى ولكن ليس كل من نطق باسمها كان صادقًا فى نصرها…فحين تتحرك بعض القوى التى لفظها التاريخ، وتعود تحت شعار “الضمير”، علينا أن نسأل: أى ضمير هذا الذى لا يستيقظ إلا عندما يريد أن يُحرج مصر؟
الآن نخلع عن القافلة الغطاء، ونكشف من يدفع العجلات من الخلف…فمرحبا بكم إلى حيث تتحول الإغاثة إلى أداة، وتُستخدم النوايا الطيبة كحصان طروادة فى معركة وُضعت عناوينها فى ملفات قديمة.
لو كانت الغاية “وصول المساعدات”، فهناك طرق فنية وديبلوماسية آمنة لتوصيلها، أما الإصرار على الوصول بـ«قافلة شعبية إلى معبر رفح دون تنسيق رسمى» فيبدو أقرب إلى رسالة سياسية، لا إغاثة إنسانية.
نحن إذن أمام مشهد يرفع راية الإغاثة لغزة، ويزرع فى الطريق فتيل أزمة على حدود مصر، قافلة تتحرك من بلاد المغرب إلى رفح، محمّلة بالأمل ظاهريًا، وبالاستغلال السياسى ضمنيًا، فهل المطلوب حقًا إغاثة شعب؟ أم إعادة تدوير مشروع الإخوان الذى انتهى وتكسّر، يريدون إعادة تدويره أو إيجاد تموضع جديد له بين جماهير أسقطته، وهم عندما يبحثون عن تموضع جديد بين الشعوب إنما يبحثون بالشعارات واللافتات.
ولكن الأمم لا تُختبر بالشعارات، بل تُختبر وقت الشدائد بما تبذله من عون، وما تتحمله من تبعات، وما تنفقه من جهد فى صمت دون أن ترفع راية الدعاية لنفسها، ومصر منذ أن اشتعلت النار فى غزة، لم تلتفت إلى مَن يصرخ فى المنابر، بل التفتت إلى من يئنّ فى الخيام، هل نسى أو تناسى أصحاب الشعارات أن أكثر من خمسة وخمسين ألف طن من المساعدات المصرية دخلت عبر معبر رفح، لا تسبقهما كاميرات، ولاتتبعُهما صرخات انتصار، ونحو ثلاثة آلاف شاحنة مصرية تحمل الزاد والدواء عبرت إلى غزة، بصمت الموقنين بأن نصرة الحق لا تحتاج إلى منصة، هل نسى أو تناسى أصحاب تلك القافلة الهزلية أن مصر أقامت منطقة لوجستية فى العريش، لتجعل من أرضها معبَرًا للرحمة، ومخزنًا للخير، وموئلًا لتنظيم الجهد الإنساني.
وبعثت المستشفيات الميدانية وأطقمًا من أطبائها وجراحين من شبابها إلى حدود النار، لا يسألون عن صورة، ولا ينتظرون شكرًا، بل يبتغون مرضاة الله، ثم نجدة الإنسان، لم تدخل مصر هذا الميدان صاخبة، ولم تتقدمه بمظاهرات، بل دخلته بعقل الدولة وروح الأمة… وبمنطقٍ يجعل من النصرة التزامًا أخلاقيا، لاقافلة استعراضية، هذا ليس كلامًا من وحى الدفاع، بل سجّل وقائع تؤكد أن مصر لم تتأخر يومًا، ولم تُساوم لحظة.
ولكن ماذا لو مضت “قافلة السقوط” هذه إلى نهايتها المرسومة سلفا؟ عندئذٍ لن نكون أمام مشهد إغاثى، بل أمام محاولة مدبّرة لتوريط مصر فى مواجهة مفتعلة، مواجهة يُراد لها أن تتحوّل إلى مشهد دعائى: تُرفع فيه الشعارات، وتُلتقط فيه الصور، وتُصوّر الدولة التى قدّمت آلاف الأطنان من الدعم على أنها “تمنع الغذاء والدواء عن غزة”.
هذا ليس سعيًا للإغاثة، بل سعيًا لتشويه مصر، ليس دعمًا لغزة، بل استغلالًا لمعاناتها فى مسرحية سياسية سيئة الإخراج، فمصر منذ اللحظة الأولى، لم تُقصر فى الدعم، ولم تغلق حدودها يومًا فى وجه المأساة الفلسطينية، لكنها ترفض أن تكون ساحة عبور لمشروعات مضادة، أو ممرًا لإعادة تدوير فلول تنظيمات لفظها التاريخ.
نعم هم يريدون فقط صورة “المعبر المغلق” أكثر مما يريدون إدخال المساعدات، يريدون أن تُتهم مصر، لا أن تُشكر، يريدون إشعال نار الشارع، وأن يعلو الهتاف: “افتحوا المعبر”، دون أن يُقال لمن؟ ولماذا؟ وعلى أى حساب؟ ووراء كل هذا، تكتيك إخوانى قديم: استدعاء الاشتباك الرمزى مع الدولة، لا للوصول إلى غاية وطنية، بل لخلق أزمة سيادية، وهذا جزء من منهجهم “اللاسلم واللاحرب” الذى كان أحد تكتيكات الإخوان فى تصدير الأزمات للدولة بعد أن أسقطهم الشعب، حينها قرر التنظيم أن يُربك، أن يُزعج المشهدين السياسى والاقتصادى.
فما الذى يُراد الآن؟ أن يُقال إن مصر لم تعد حاضنة لفلسطين، وإن بعض “القوى البديلة” هى الضمير الجديد للأمة.
يراد أن يُعاد بعض شيوخ الإخوان إلى الواجهة، لا بوصفهم أعضاء فى التنظيم الدولى ومنظماته، ولكن بوصفهم “صوت الضمير”.
يُراد أن يُفرض على القاهرة مشهد مُركّب: بين الواجب الإنسانى، والاشتباك السياسى، والضغط الإعلامى، وكل هذا، فى لحظة بالغة الحساسية، تخوض فيها مصر أكثر معاركها تعقيدًا: بين حماية أمنها القومى على حدودها الشرقية، وبين الوفاء بالتزامها التاريخى تجاه فلسطين.
ولكن فى السياسة، كما فى الأخلاق، لا يكفى أن يكون الفعل طيبًا فى ظاهره، بل ينبغى أن يكون سليم النية، نقىّ القصد، واضح الغاية، والقضية الفلسطينية بما فيها من نزف تاريخى، لا تحتمل أن تحمل فوق أكتافها ألاعيب الإخوان وفصائلهم، ولا أن تُستخدم كمدخل للعودة إلى مشهد خرجت منه شعوب المنطقة بثورات ودماء وتكلفة لا توصف.
إن أخطر ما قد تواجهه مصر فى هذه اللحظة ليس فقط أعباء القضية، بل أعباء الالتفاف حولها، حين تُستغل العاطفة لتُسلب السيادة، وحين يُراد للمعابر أن تُفتح بلا حساب، لا حبا فى غزة، بل نكاية فى القاهرة، فليس كل من حمل علبة دواء إلى غزة مُعينًا، ولا كل من وضع حراسة على المعبر خائنًا.
ففلسطين لا تتحرر بالفوضى، ولا تُغاث بالمراوغة، ولا تنجو بأشلاء التنظيمات التى لفظتها شعوبها.