
كمال زاخر
تدشين مسارات المواطنة
اثنا عشر عاماً تفصلنا عن تلك اللحظة المهيبة التى زحف فيها المصريون باتجاه قصر الاتحادية، كان قرارنا، أسرتى وأنا، أن لا نفوت المشاركة فى هذه اللحظة، كان مشهد المشاركة لافتاً فقد قررنا أن نقصد محيط قصر الاتحادية حيث المقر الرئاسى، فإذا بنا نتهيأ له وكأننا ذاهبون إلى مناسبة اجتماعية وليس إلى مواجهة نظام حكم شرس، ولم يكن قرارنا بمفردنا فقد اكتشفنا أن مئات بل آلاف الأسر كانت قد اتخذت نفس القرار، ومع كل خطوة بامتداد مسيرة تجاوزت الساعة كانت الأسر تنضم إلى المسيرة حتى صارت مظاهرة حاشدة، وهناك وجدنا كل أطياف الشعب من كل الفئات العمرية يتجاور الشاب مع الكهل والمرأة مع الرجل، كانت لحظات استردت فيها مصر كل رقيها وقيمها التى غابت طويلاً، وافترشنا الشارع والأرصفة وكأنه حصار للقصر وإعلان شعبى برفض ساكنه وجماعته.
كانت اللحمة الوطنية هى المسيطرة على المشهد، فقد تماهت كل الانتماءات السياسية والنوعية والدينية، وكان الحضور القبطى إحدى علامات اللحظة، فلم يكن الأقباط بمعزل عن الشعور العام فهم جزء أصيل من الشارع المصرى، ولم ينظروا لأنفسهم يوماً باعتبارهم «جيتو» أو بمعزل عن بقية المصريين، كانت معاناتهم من سنة الإخوان واحدة وكانت مخاوفهم هى هى نفسها، وزاد عليها الموقف التاريخى لتلك الجماعة رأس حربة التيارات الأصولية فى كراهية ونبذ الأقباط والعمل الدءوب على إجلائهم وتصفية وجودهم وفق نظم التطهير العرقى الدينى، وكانت سنتهم اليتيمة محملة بمؤشرات وأفعال على الأرض تكشف هذه التوجهات الدموية، وكانت آيتها الهجوم السافر على الكاتدرائية الرمز القبطى الأبرز والقفز فوق أسوارها مستهدفين مقر إقامة البابا الرمز القبطى الوطنى التاريخى.
فكان خروج الأقباط للمشاركة ضمن جموع المصريين خروجًا ليس للمطالبة بحقوق سياسية واجتماعية فئوية، بل للدفاع عن وجودهم ، لذا فثورة 30 يونيو كانت ثورة وجود وليست مجرد ثورة حقوق. وكانت بالنسبة للأقباط ثورة استرداد وطن، يتسع لكل المصريين.
كانت المواطنة هى المطلب الأول لحراك 30 يونيو 2013، وفيها تتحدد الواجبات والحقوق والعلاقات البينية من قاعدة الانتماء للوطن، وهو ما ترجمته نصوص الدستور الذى صدر عقب هذا الحراك، وأقر عام 2014.
وحين وقف وزير الدفاع يعلن عن استجابة القوات المسلحة لمطالب الشعب ونجاح ثورة المصريين فى 3 يوليو وإعلان بيانها الحاسم فى مشهد مهيب، كان فى الوقت ذاته يرسل رسالة للداخل والخارج أن خيار المواطنة هو عنوان الثورة، كان المشهد يحمل هذه الرسالة إذ كان يضم رموز القوى الوطنية، الشباب وقيادات الجامع الأزهر والكنيسة القبطية وممثلى الأحزاب، لتبدأ مصر مرحلة جديدة برؤية وطنية صادقة ويتحول الشارع المصرى فى المدن والقرى بامتداد واتساع خريطة مصر إلى فرح مصرى شعبى مبهر.
لم تتوقف مساعى تأكيد المواطنة عند تلك اللحظة، بل حملت الأيام تطبيقات على الأرض، بدأت بالنص فى الدستور فى المادة الثالثة منه على أن مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، اختيار قياداتهم الروحية.
وتأتى المادة الرابعة منه لتترجم مضمون المواطنة بنصها على أن «السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التى تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين».
ثم تضع 30 يونيو وهى تنتقل من الثورة إلى الدولة يدها فى واحدة من المعضلات المزمنة التى كانت تمثل صداعًا مزمنًا فى رأس الوطن وتهدد سلامه بل تهدد وحدته، وهى معضلة بناء الكنائس، لتسن قانونًا لبنائها وترميمها لا يخضع للهوى أو لتوازنات السياسة وتقلباتها، رتبت له قواعد موضوعية مجردة، أعقبته بسلسلة من إجراءات وقرارات توفيق أوضاع الكنائس والمنشآت الدينية الخدمية التابعة لها، التى بنيت قبلًا فى ظروف ضاغطة متربصة امتدت لما يزيد على القرن.
وحتى تتيح فرصًأ حقيقية للفئات التى كان من الصعب عليها، لعديد من الأسباب، المشاركة فى البرلمان والمجالس الشعبية، أصدرت قوانين تحتم وجودهم فيها، وتمثيلهم فى القوائم الانتخابية، المرأة والشباب والأقباط والمصريون بالخارج، وغيرهم.
وكان الالتفات للطبقات الكادحة والمهمشة عبر خطط الإحلال التى نشهدها فى مشاريع تطوير العشوائيات عبر الإسكان الاجتماعى البديل مؤشرًÇ إيجابيًا فى سياق ترجمة المواطنة فى الواقع المعيش، وفى مبادرة رئاسية لافتة تصدر توجيهات ملزمة بتضمين مشروعات تسكين أهالى العشوائيات مبنى لكنيسة ملحقًا به مبنى للخدمات الاجتماعية، بجوار المسجد، وامتد القرار للمدن والمجتمعات العمرانية الجديدة.
ولم يكن الرئيس عبد الفتاح السيسى بعيدًا عن ترسيخ قيمة المواطنة إذ رسخ لتقليد رئاسى جديد بحضوره للتهنئة فى قداس عيد الميلاد المجيد سنويًا، وافتتاحه أكبر كاتدرائية فى الشرق الأوسط بالعاصمة الإدارية الجديدة.
ومازال مشوار ترجمة المواطنة على الأرض طويلًا، لكنه لم يتوقف، فى إصرار لمواجهة تكتلات القوى المناوئة، والموروث الثقيل، وإن كان مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة. فالواقع يقول بأننا سرنا فى مشوار المواطنة خطوات واسعة وفاعلة.