الإثنين 30 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الفلسفة.. عقدة نجيب محفوظ التى كادت تطيح برقبته




مثل بحر عظيم، بدا الراحل نجيب محفوظ أكثر ثراء فى أعماقه عما هو موجود على سطحه، وفى أحيان كثيرة يؤدى هذا الثراء إلى نوع من التناقض الظاهرى الحاد، فقد كان الأديب التقدمى دائما ما يتعارض مع الموظف البيروقراطي، والمواطن المسالم، والتاسيس الواقعى للرواية يجور على نزعات تاريخية وفلسفية وذهنية واضحة فى اعمال مهمة، بل يمكن أن نقول أن الفلسفة هى «عقدة محفوظ» الكامنة التى كادت أن تطيح بحياته، بعدما اثارت روايته الشهيرة «أولاد حارتنا» جدالا وصل إلى حد تكفير صاحب «نوبل»، ومحاولة أحد المتطرفين قتله.
المثير للتأمل أن محفوظ نفسه ساعد على عدم نشر روايته واعتبرها شطحة فلسفية، من حقه أن يكتبها، وليس من حقه أن ينشرها، ودافع بنفسه عن قرار عدم نشرها، لكن يبقى سؤال: لماذا كتبها إذن؟ هو السؤال المحير الذى لايمكن الاجابة عليه الا من خلال قراءة الدوافع النفسية والمعرفية التى دفعت محفوظ للتفكير فى موضوع هذه الرواية، ومن ثم كتابتها.
ومن النظرة الأولى تبدو الفلسفة هى المحرك الأول، من حيث كونها رغبة عارمة داخل النفس تدفع الانسان لمحاولة تفسير الظواهر والتفكير فى أصول الأشياء بغية الوصول إلى تصور متكامل لنشاة الكون نفسه، وبالطبع لم يكن اختيار نجيب محفوظ لقسم الفلسفة فى كلية الاداب ليخلو من مغزى، إذ كان قد طرقه من قبل ذلك سنوات طويلة، خاصة فى العشرينات، بين تيارات سياسية واجتماعية كثيرة ظهرت فى مصر، وقد سعى نجيب محفوظ فى هذا الوقت لفهم الحقيقة عن طريق الفلسفة، غير أنه من المؤكد أن الكاتب الكبير ظل متأرجحاً طويلاً بين الفلسفة والتصوف حتى رحيله، لم يغلب طابع العقل على سمة الفلسفة، كما لم ينتصر لسطوة التصوف على سطوة العقل والعلم.
وقد رأى بعض النقاد أن التصوف عند عميد الرواية العربية هو رؤية أكثر منه فلسفة، خصوصا وانه حرص، طيلة حياته، على ممارسة هذه التأملات كعاشق لها، وليس كعقيدة أو طريق يقتضى منه تكاليف التصوف وأعبائه، وإنما نجد بحثاً عن سبل أخرى تشف عندها الحقيقة بمعناها الاجتماعى والسياسى وليس بمعناها اللامتناهي، وأن التصوف عند نجيب محفوظ رؤية أو موقف يمكن إجماله فى رغبتين: الأولى المزيد من الحكي، والثانية المزيد من المعرفة.
ومن الواضح أن محفوظ كتب «أولاد حارتنا» لتحقيق قدر كبير من هاتين الرغبتين مدفوعا بالوصول إلى تفسيرات روائية لولادة الكون والأديان، لكن الأصوات التقليدية المتزمتة فى البيئة المحيطة اصطدمت بهذا الخيال الجامح وبدأت تفسر الرواية بمفهوم «إلحادي» وليس «تجديدي»، وكما روى محفوظ للناقد الراحل رجاء النقاش فى كتابه: «صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على حياته: مرت الحلقات الأولى دون أن تظهر أى ملاحظات عليها، فالجزء الأول من الرواية لا يسبب أية مشاكل.. ولكن الأزمة بدأت بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة «الجمهورية» خبرا يلفت فيه النظر إلى أن الرواية المسلسلة التى تنشرها جريدة الأهرام فيها تعريض بالأنبياء.. وبعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف، فى إرسال عرائض وشكاوى يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمى إلى المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدى على أساس أن الرواية تتضمن كفراً صريحاً، وأن الشخصيات الموجودة فى الرواية ترمز إلى الأنبياء..وقد عرفت هذه المعلومات عن طريق صديق لى هو الأستاذ مصطفى حبيب الذى كان يعمل سكرتيرا لشيخ الأزهر، وكان شقيقه يعمل وكيل نيابة، وهو الذى أخبرنى أن أغلب العرائض التى وصلت إلى النيابة العامة أرسلها أدباء».
الغريب أن التقرير لجنة الأزهر الذى أوصى بمصادرة الرواية ووقف نشرها شارك فيه علماء افاضل شاع عنهم الاعتدال، والأغرب أن محفوظ لم يطالب بنشر الرواية وقال فى أحد حواراته: «بدأت كتابة «أولاد حارتنا» التى تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات.. كرسالة إلى رجال ثورة يوليو لأسألهم: هل تريدون السير فى طريق الأنبياء أم الفتوات؟ فقصة الأنبياء هى الإطار الفنى ولكن القصد هو نقد الثورة والنظام الإجتماعى الذى كان قائماً وهنا يكون «عرفة» هو رمز العلم.. الذى كانت الفلسفات الحديثة تقدمه فى الخمسينات على أنه «الدين الجديد».. وهو يتصارع حسب خريطة الرموز مع الأبطال الآخرين.
فالأفكار الفلسفية فى أعمال نجيب محفوظ لا يقدمها لنا إلا من خلال حالة شديدة الخصوصية أى من خلال شخصيات وأحداث تتحرك فى إطار زمانى ومكانى ما وكل شخصية لها ملامح خاصة بها ودلالات إنسانية وطموحاتها لذلك نتعاطف مع مثل هذه الشخصيات التى توجد أيضا فى إطار زمنى خاص بها وتتعامل مع شخصيات أخرى تنتمى إلى مجتمع له ثقافته وقيمه وعاداته وتقاليده وهى شخصيات تتجاوز مجرد الدلالة على وجودها الفردى وتحمل شكلا من أشكال الحياة الإنسانية بشرط أن نعى أن شكل الحياة الإنسانية نفسه لا يكون ممكنا فى الأدب إلا من خلال طابع خاص يميز الشخصية، فعلى سبيل المثال سوف نجد أن التطلع الطبقى الذى يفقد معه الشخص قيم طبقته هى فكرة مركزية فى كثير من أعمال نجيب محفوظ وهى دلالة إنسانية عامة توجد فى كل زمان ومكان ولكن نجيب محفوظ يصورها فى أسلوب خاص من الفردية فى شخصية محجوب عبد الدايم فى «القاهرة 30» وبشكل مختلف عن شخصية حميدة فى «زقاق المدق» والتى تنتمى إلى شريحة اجتماعية معينة فى مصر تسكن الحارة المصرية وتعيش فى الزقاق بكل تفاصيله وهذه القدرة الفنية على تمثل طابع إنسانى عام تتجلى وتتمثل من خلال روح خاصة مميزة لأسلوب ما من أساليب الحياة وتلك القدرة على تصوير العام فى الخاص هى معجزة ما نسميه بالأدب العالمى ومنه أدب نجيب محفوظ.