الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

نافس مقالات العمالقة برسوماته .. وأخرج الكاريكاتير من عباءة رئيس التحرير





كان من الممكن أن نحتفل اليوم بعيد الميلاد السادس والثمانين لسلطان الكلمة والريشة صلاح جاهين الذى رحل عنا عام 1986 وهو دون الستين من عمره، ما بين التمنى وبين الواقع لا يسعنا سوى الاحتفال بعيد ميلاده رغم غيابه الجسدى الذى يعوضه حضوره الفنى بكل أشكاله الشعرية والسينيمائية والكاريكاتيرية، جاهين ذلك الفتى متعدد المواهب الذى بدأت مواهبه تتضح فى أواخر أربعينيات القرن الماضى بمجلة «بنت النيل» وهى مجلة نسائية شهرية قبل أن ينتقل لمجلة روزاليوسف عام 1955م لتتبلور موهبته كرسام كاريكاتير أحدث تغييرا ومرحلة جديدة فى فن الكاريكاتير سجلت باسمه وانتهجها من جايلوه ومن لحقوه، قصة انتقال جاهين جاءت حينما فتحت «روزاليوسف» أبوابها لاستقبال الرسامين الشباب بعد انتقال رسامها الأول عبدالسميع إلى مؤسسة «أخبار اليوم» وكان جاهين وقتها دون الخامسة والعشرين من عمره وواصل العمل ولمع اسمه حتى اختطفه الأستاذ محمد حسنين هيكل للأهرام التى تفتقر تماما للكاريكاتير ولاتعرف طريقه معتمدة على الصور الفوتوغرافية لكنه ما لبث أن استدعاه أحمد بهاءالدين مرة أخرى ليتولى رئاسة تحرير مجلة «صباح الخير» ويصبح أول رسام كاريكاتير يشغل هذا المنصب بتاريخ الصحافة لكنه سرعان ما عاد مرة أخرى للأهرام... هذه اللمحات السريعة استغرقت سنوات طويلة وارتبطت بأحداث عديدة شاركت فى تغيير مسارات الرحلة الفنية لجاهين التى يفسرها فى السطور التالية الكاتب الصحفى لويس جريس الشاهد على مرحلة جاهين وتاريخه للعلاقة الممتدة التى ربطت بينهما إنسانيا ومهنيا،
 
 

 
يحكى جريس: صلاح جاهين يعتبر رائد فن الكاريكاتير المصرى الذى طوره لكى يصبح بديلا للمقال، ذلك أن جاهين عندما كان يرسم رسما كاريكاتيريا سواء وضع تعليقا عليه أو بدون، كان مثل المفكر السياسى الكبير الذى يكتب مقالا فى مجريات الحياة السياسية أوالاجتماعية التى تجرى من حولنا، كما كان فى عصره محمد حسنين هيكل وأحمد بهاءالدين وموسى صبرى وعبد الرحمن الشرقاوى وإحسان عبدالقدوس وفكرى أباظة وزكى نجيب محمود وفتحى غانم وصلاح عبدالصبور الذين كانوا يكتبون فيما يجرى حولنا من أحداث ويعلقون عليه بالكلمة بينما جاهين يعلق بالرسم الذى يصل للناس أسرع من المقال.
 
 

 
جاهين هو أول من مارس استقلال رسام الكاريكاتير عن رئيس التحرير فى الصحافة المصرية وأعنى بذلك أن الصحافة المصرية منذ أن بدأت فى الرسوم الكاريكاتيرية للتعبير عن مجريات الحياة اليومية كان رئيس التحرير يجلس مع الرسام ليضع الفكرة التى يرسمها الرسام ولعل أكبر مثل مستمر حتى الآن هو الفنان مصطفى حسين حيث يشترك الكاتب الكبير أحمد رجب فى وضع الفكرة لرسمه، فكل الرواد عملوا بطريقة أفكار رئيس التحرير مثل رخا وصاروخان وطوغان وعبدالسميع وزهدى إلى أن ظهر جاهين ليغير هذه الطريقة ليصبح هو المفكر والمبدع لرسومه وسار على نهجه باقى الفنانين أمثال اللباد وإيهاب شاكر والبهجورى وحجازى، تبرز أهمية صلاح جاهين كرسام كاريكاتير عندما اختاره الأستاذ محمد حسنين هيكل لكى يضيف إلى الأهرام الرسم الكاريكاتيرى، لأول مرة منذ نشأتها عام 1876، حيث لم تقدم الأهرام رسوما كاريكاتيرية واعتمدت على الصورة الفوتوغرافية، وظهرت أخبار اليوم فى منتصف أربعينيات القرن الماضى وكانت تقدم رسوما لصاروخان ورخا، لكنها كانت بمعاونة رؤساء التحرير، هنا بدأت تظهر الموهبة الجديدة فى رسام الكاريكاتير الذى يفكر لنفسه فكان المشرف الفنى وقتها حسن فؤاد يضع ماكيت مجلة «صباح الخير» ويترك مساحات فارغة على شكل نصف الصفحة طوليا أو عرضيا وأحيانا الصفحة كاملة ويطلب من جاهين رسوما فيبدع أفكارا جديدة أضافت للمجلة، فمثلا قدم بابه الشهير «نادى العراة» الذى كان يرسمه على نصف صفحة طولية، وابتكر صفحة كاملة بعنوان «الفهامة»، أيضا من أشهر الأبواب له بالمجلة كان «قهوة النشاط» وهى المقهى الذى استطاع جاهين من خلاله معالجة البيروقراطية المنتشرة بدواوين الحكومة، ولم يكتف بذلك بل صنع بابا جديدا بعنوان «دواوين الحكومة» ليهجم على الروتين المتباطئ فى إنجاز مصالح الجماهير.
 
أول رسام كاريكاتير رئيسا للتحرير
 
 يكشف جريس عن حادثة تولى صلاح جاهين رسام الكاريكاتير لرئاسة تحرير مجلة «صباح الخير» التى لم تستمر طويلا ويقول: كان ذلك عام 1966 وقتها كان صلاح بالأهرام وأحمد بهاء الدين رئيسا لمجلس إدارة «روزاليوسف» و«دار الهلال»، وإحسان عبدالقدوس رئيسا للتحرير، وقرر هيكل رئيس مجلس إدارة الأهرام وأخبار اليوم وقتها اختطاف عبدالقدوس للأهرام، فكان الرد من بهاء الدين ان اختطف صلاح من الأهرام للمجلة ليتولى منصب رئيس تحريرها! .. هذه الفترة زادت مبيعات المجلة من 27 ألف نسخة حتى 65 ألف نسخة .. صلاح كان يريد أن يحول المجلة لمجلة كاريكاتير كنت وقتها مدير تحرير المجلة فناقشنى فى الأمر وطلب منى الاستغناء عن المحررين ونقلهم لمجلة روزاليوسف والإبقاء على الرسامين لكننى اعترضت وقلت له: ما ينفعش! .. الناس دى رتبت حياتها على كدة واتربوا فى المجلة بقالهم 10 سنين! ... يردف جريس: تزامن مع ذلك انشغال صلاح بإعادة ترتيب حياته الاجتماعية حيث كان يعد لزيجته الثانية من السيدة منى قطان الأمر الذى استغرقه أكثر من متابعة المجلة حتى تزوجا فى يونيو 1967 وجاءت النكسة وانخفضت مبيعات المجلة واكتئب صلاح! وفى يوم 15 يونيو هاتفنى فى الصباح الباكر قبل أن أنزل للمكتب ليخبرنى بأنه قد ترك لى هدية فى درج مكتبى! ... كانت الهدية هى رسم بيانى لمبيعات المجلة قبل وبعد النكسة وكتب: مبروك عليك المجلة! وعاد رساما للأهرام وتوليت رئاسة تحرير المجلة واستطعت رفع مبيعاتها مرة أخرى ووصلت إلى 45 ألف نسخة... انتهت حكايات وذكريات الكاتب الصحفى لويس جريس عن جاهين.
 
 

 
صوفية كاريكاتير جاهين وحلم الثورة
 
مفاجأة مدهشة وصادمة ابتكرها صلاح جاهين فى أول غلاف لمجلة صباح الخير فى الثالث عشر من يناير 1956 برسم كاريكاتير ذو أسلوب فنى جديد تأثر فيه جاهين بمدرسة البهجورى الكاريكاتيرية التى تتصور فنون مصر القديمة والقبطية والإسلامية والشعبية ومدرسة الراحل حسن فؤاد الذى تعتمد رسومه على ابتكار شخصيات ومواقف وأماكن غير مسبوقة، ومن ثمة كانت مشحونة بشحنة وجدانية تحمل وعيا اجتماعيا خاصا وانحيازا سياسيا واضحا، مع هذه التوليفة كان جاهين متأثرا أيضا بمدرستى الرواد صاروخان وعبد السميع مع تأثره بالمدرسة الغربية أبرزها مجلات Men Only, Lilliput, Punch، جاء هذا الرسم بحميمية ودفء خاص لتصويره البيوت القاهرية المتواضعة والريفية كذلك أسواق ومساجد ودكاكين القاهرة بروحها الصوفية مما خلق علاقة وثيقة وحميمة بين «صباح الخير» وبين القارئ الذى قابل فى رسم جاهين أهله وجيرانه ونفسه! وبحسب ما كتبه اللباد بالجزء الأول من كتابه «نظر» ذكر أن جاهين كان هو أول من أزال السور مابين الكاريكاتير السياسى والفكاهى مبتدعا الكاريكاتير السياسى – الاجتماعى لينتشر كمذهب جديد بعالم الكاريكاتير وبالبلدان العربية، وأوضح اللباد أن رسوم جاهين تميزت بعدم الاهتمام الزائد بالتشكيل وتقمص دور الفنان التشكيلى المتفرد مما جعل أسلوبه أكثر مرونة وحيوية نافذ التأثير فى جمهور عريض. أما الفنان جمعة فرحات فيقول عن جاهين: قاد صلاح جاهين كتيبة رسامى الكاريكاتير فى روزاليوسف ليحرثوا الأرض أمام الثورة لزرع بذرة الكثير من المفاهيم الاجتماعية الجديدة التى تنادى بها .. بل كانت تسبق فكر الثورة نفسها وتدفعها للتشبث بها، حتى المرأة عنده لم تكن القالب المعتاد بل كانت المرأة عنده هى صاحبة الفعل دائما وهى الشخصية الإيجابية الحاكمة المتمردة لكن فى الوقت نفسه هى والرجل جزءان مكملان لبعضهما البعض، فكانت المرأة عنده هى بحق نصف المجتمع. الكاتب الصحفى الدكتور عمرو عبدالسميع فى رسالته «الكاريكاتير السياسى المصرى فى السبعينيات» أوجز السمات الفنية لجاهين فى أنه استخدم الخط الموحد واهتم بالتفاصيل، كما تعمد إلى تغيير ملامح أسلوبه الفنى باستخدام التظليل والفرشاة أو التهشير بسن الريشة دون مراعاة للنسب، أيضا استخدم مجموعة ثابتة من الرموز والشخصيات الثابتة مثل «الهيكل العظمى» و«درش» و«قيس وليلى»، كذلك التوازن بين الاعتماد على كوميديا الموقف وكوميديا اللفظ لسببين هما العامل الشخصى بوصفه شاعرا طيع الكلمة وعامل موضوعى كرسام يهرب من إبداء الرأى بشكل مباشر، وأشار عبدالسميع لاستخدام جاهين لوسائل إقناع متعددة كالمفارقة والجوانب الدينية والأمثال الشعبية والعادات الأجنبية.
 
الصدام مع الشيخ كشك والشيخ الغزالى.
 
بدأ الخلاف مع مطالبة الشيخ محمد الغزالى لجمال عبد الناصر، فى عام 1962 بتحرير القانون المصرى من أية تبعية أجنبية، كما طالب بضرورة المحافظة على احتشام المرأة والمحافظة على طبيعتها الأنثوية، مؤكدا أهمية ارتدائها الحجاب، وفى اليوم التالى نشر الأهرام كاريكاتيرا لـ«صلاح جاهين» رسم فيه الشيخ الغزالى وهو يخطب فى الجماهير ويقول: «يجب أن نلغى من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج كالقانون المدنى وقانون الجاذبية الأرضية»!!
 
هنا اشتعل الموقف وهاجم الغزالى جاهين، وأوضح أنه لم يهاجم القوانين العلمية الثابتة وإنما يرفض أن يظل الشرق العربى محكوما بالقانون الفرنسى، وطالب الغزالى بأن تحترم الصحف السيارة نفسها، فما كان من محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام آنذاك إلا أن يقول إن الأهرام تقدس الدين وتحترمه إلا أنها ترفض أن يتحول الخلاف بين جاهين والغزالى إلى خلاف دينى.
 
عاد «جاهين» ليرسم كاريكاتيرا آخر يظهر فيه مجموعة من المشردين يسألون الغزالى «أين الكساء يا مُشرع الأزياء.. لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء؟» فيرد الغزالى: «ما باتكلمش عنكم يا جهلاء لأنكم ذكور.. وما ظهر من جسمكم ليس عورة!». وفى عدد الجمعة من نفس الأسبوع نشر «جاهين» 6 رسوم كاريكاتيرية دفعة واحدة ثم أتبعهم بقصيدة يومها ألقى الشيخ الغزالى خطبة قوية، هاجم فيها صلاح جاهين؛ ودافع عن مكانة العالم، الأمر الذى دفع بالكثير من الحضور للتظاهر أمام مبنى الأهرام احتجاجا على رسومات «جاهين»!! فتدخل هيكل مرة ثانية ليعقد لقاء للمصالحة فى مبنى الأهرام بين الغزالى وجاهين وتم التصالح.
 
أما الشيخ كشك فلقد اتهم صلاح جاهين بالإلحاد والفسق بعد نشره لكاريكاتير ينعى فيه المخرج العالمى ألفريد هيتشكوك فى الأهرام بتاريخ 1 مايو 1980 يسخر فيه من الذات الإلهية حين صور ملك الموت والله عز وجل يسأله لماذا تأخر فى قبض روح هيتشكوك فأجابه عزرائيل بأنه كلما اقترب من هيتشكوك يقول له بخ!