الثلاثاء 1 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الشيخ عبد الله الشبراوى.. شيخ الأزهر الشاعر





 
 
 
 
الشيخ السابع للأزهر الشريف.. عبدالله بن محمد بن عامر بن شرف الدين الشبراوى الشاعر الأديب، والذى يُعتبر فاتحةً لعصر النهضة والتحرُّر، وُلِدَ سنة 1092هـ بالقاهرة.
ونبغ من صِغره بعد أنْ حفظ القُرآن وهو فى سنٍّ صغيرة، وكان شاعرًا مرموقًا، وكاتبًا فريدًا، وعالمًا واسع الاطِّلاع، متعمقًا فى الفقه والحديث، وعلم الكلام وأصوله.
والإمام عبدالله الشبراوى هو شخصيَّة فذَّة جمعت بين مواهب كثيرة متعدِّدة؛ فهو شاعر ممتاز كما ذكرنا بالنسبة لعصره، وأشار إليه الجبرتى فى ترجمته: «الإمام الفقيه المحدِّث الأصولى المتكلِّم الماهر الشاعر الأديب».
وتولَّى منصب مشيخة الأزهر وله من العمر أربعة وثلاثين عامًا، وكان شافعيَّ المذهب، وبيئته بيئة علميَّة صالحة كلها علم ودِين.
والشيخ الشبراوى شافعيُّ المذهب، ومن الصعب جدًّا أنْ يتنازل أصحاب مذهبٍ عن شيءٍ فى أيديهم لأصحاب مذهبٍ آخَر مهما كانت قيمته، وبخاصَّة أنَّ المتنازل عنه هو أسمى وأشرف منصبٍ فى الأزهر -وهو المشيخة- سبق أن اعتلى الشيخ البرماوى هذا المنصب وهو شافعي! والإمام الشبراوى أثبَتَ كفاءته بجدارة لمنصب المشيخة أمام المالكيَّة؛ لأنه تتلمذ على الأئمَّة الذين سبقوه إلى أريكة المشيخة، وأنهم كانوا جميعًا يُقدِّرونه ويعرفون مَزاياه ومواهبه وذكاءه، وأنَّ الشيخ الخراشى وهو مَن هو فى علمه وخلفه قد كرم الشيخ الشبراوي، وأَذِنَ له فى النقل عنه وهو صبى فى الثامنة من عمره؛ لأنَّه كان يحفظ كتب السُّنَّة الستة ويرويها بإذنٍ من شيوخه، وهذا يعنى أنَّه كان من الحفَّاظ الذين يُشار إليهم بالبَنان، وينتقل إليهم طلاب الحديث من مكانٍ إلى مكان ومن بلدٍ إلى بلد؛ طلبًا للرواية، وأنَّه كان ينتمى إلى بيتٍ له قَدره فى الرِّياسة والعلم، والمتتبِّع للترجمة التى كتبها «الجبرتي» فى يوميَّاته لأبيه الشيخ محمد بن عامر وجده عامر بن شرف الدين يجد أنَّه يصف الأوَّل بالعلم الواسع والمكانة المرموقة، ويصف الثانى بما سبق ويزيد عليه أنَّه أحد الحفَّاظ المعدودين فى الحديث... وأنَّه كان شاعرًا يفيضُ شعره رقَّةً وعذوبةً وجزالةً تبعًا للمقام والمناسبة التى يقولها فيه، وكان يغترف من بحرٍ، فهو شاعرٌ من الطبقة الأولى، ولا ينحصرُ شِعره فى غرضٍ واحدٍ ولا فى فنٍّ واحد.
آثاره العلميَّة وتأثيره وأدبه
كانت للشيخ الشبراوى مكانةٌ عظيمة عند الحكَّام وبين العلماء، ولقد سجَّل أحداثَ عصره شعرًا ونثرًا، وقد كانت له قصائد تَغنَّى بها أبناءُ عصره، ومن تلاميذه البارزين: الوالى عبدالله باشا بن مصطفى باشا الكوبري، وتولى عبدالله باشا ولايةَ مصر، وكان عبدالله باشا شاعرًا وأديبًا وعالمًا جليلاً، ما كاد يتولَّى منصبَ الولاية حتى اتَّصل بكبار العلماء والأدباء والشُّعَراء، وتلقَّى علومه منهم، ويقول الجبرتي: إنَّه إنسان خَيِّرٌ صالح ومتَّبع للشريعة... كما أبطل منكراتٍ كثيرةً، وهو أحد تلاميذ الشيخ الشبراوى كما أوضحنا، والإمام الشبراوى اعتلى أريكة مشيخة الأزهر خمسًا وأربعين عامًا تقريبًا كان الأزهر فيها ملءَ السمع والبصر، وانعكس أدب الشيخ وعلمه على طلاب الأزهر جميعًا؛ هدوء العلماء والأدب الجم الوافر.
وكان الناس إذا مسَّهم ظلمٌ من الحكَّام هرعوا إلى علماء الأزهر، وعلى رأسهم الإمام الشبراوي؛ فلا يبخلون عنهم بالمساعدة حتى يُرفَع عنهم الظلم ويعودَ الحق إليهم، وهذا دليلٌ على حُسن إدارة الشيخ وقُدرته الفائقة على مُزاولة شُؤون منصبه، وقد يعتقدُ بعض القُرَّاء أنَّ شيخًا مثل الشبراوى يظلُّ شيخًا للأزهر هذه المدَّةَ الطويلة يُعتبر دليلاً على شدَّة حَزمِه وقوَّة شكيمته... والحق أنَّه كان عكسَ ذلك تمامًا، وسيرته تدلُّ عليه؛ حيث إنَّه كان محاورًا واسع الأفق، قويَّ الحجَّة، مجادلاً بالحسنى، لا يدعُ مجالاً لمن يحاورُه إلا ويقفُ مستجيبًا خاضعًا لرأى الشيخ وينقادُ إليه... وقد أعطى الله الإمامَ الشيخ الشبراوى مالاً كثيرًا وأنفقه فى رفعِ شأن الأزهر وعلمائه وطلابه، وكانت للشيخ الشبراوى شهرةٌ عظيمة ومكانةٌ سامية عند الحكَّام والولاة ومَن يحيط بهم، وقد مدَح فى ديوانه كثيرًا منهم، وكتب قصائد مدح مُسهِبة.
وكان يستغلُّ مواهبه الشعريَّة، فى نظْم بعض العلوم؛ لتسهيل حفظها على الطلاب؛ مثل نظمه «للآجرومية» فى علم النحو، ولقد كان للإمام «الشبراوي» مكانةٌ عظيمةٌ شَهِدَ له بها كلُّ الناس، يقول عنه الجبرتى فى «الآثار»: «لم يترقَّ فى الأحوال والأطوار ويغير ويوضح، ويُبين ويدرس حتى صار أعظمَ الأعاظم، ذا جاه ومال ومنزلة عند رجال الدولة والأمراء، ونفذَتْ كلمتُه وقُبِلت شفاعتُه، وصار لأهل العلم والعلماء فى زمنه وفى عهد توليته لمشيخة الأزهر رفعة مقام ومهابة عند الجميع، وأقبلَتْ عليه الأمراء وهادوه بأنفَسِ ما عندهم، وقد ظهَر ذلك جليًّا عندما سعَى إليه الوالى العثمانى عبدالله باشا، وتتلمَذَ على يديه، وطلب إجازتَه - بمنزلة أنْ يروى عنه - وحينما حدثت تعديلاتٌ ماليَّة فى المرتَّبات والأوقاف من جانب السلطان العثمانى بها إجحاف ببعض المستحقِّين لأموال الأوقاف من جانب خِزانة الدولة، قال القاضي: «أمرُ السلطان لا يُخالَف وتجبُ طاعته»، وكان القاضى تركيًّا، فقال الشيخ المنصورى للقاضي: يا شيخ الإسلام، هذه المرتَّبات هى بأمر نائب السُّلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شيء جَرَتْ به العادة من صرف الرَّواتب فى مدَّة الملوك المتقدِّمين، وهذا الأمر مُرتَّب على خيرات ومساجد، وأسبلة - سبيل الشرب - ولا يجوزُ إبطالُ ذلك، وإذا أبطل بطلت الخيرات، وتعطَّلت الشعائر المرصد لها ذلك، وإن أمَر وليُّ الأمر بإبطالِه لا يسلم له ويخالف أمره؛ لأنَّ ذلك مخالفةٌ للشرع، ولا يُسلَّم للإمام فى فعل ما يخالفُ الشرع، ولا لنائبه أيضًا، وهذا يعدُّ موقفًا كريمًا لأحد علماء الأزهر البارزين، وفى وقتها كتب الإمام الشيخ «عبدالله الشبراوي» شيخ الأزهر عرضًا فى شأن المرتبات من إنشائه وتأليفه، تمَّت المصالحة عليه ووافَق السلطان.
انعكست آثاره ومكانته العلميَّة على العلماء والطلبة أيضًا؛ فتعلَّموا منه كرمَ النفس وسعةَ الأفق ورحابةَ الصدر؛ ودليل ذلك أنَّه وقعت حادثةٌ لأحد المتصوِّفين الزاهدين، وقد التفَّ حوله الناس، وصار لهم فيه اعتقادٌ كبير، وكانت له أحوالٌ غريبة، وألَّف كتبًا عديدة فى التصوُّف، وشرح «الجامع الصغير»، وشرح «حكم ابن عطاء الله السكندري»، فزادت منزلةُ هذا الصوفى عند الجماهير، وكان يخرجُ كلَّ أسبوع على بغلته لزيارة المشهد الحسيني، وأتباعه حوله يصيحون، ويجأرون بالذِّكر فى صَحن المسجد، واستطاع العلماء أنْ يُؤلِّبوا الأمراء ضد هذا الرجل، ولكنَّ الشيخ الشبراوى كان محبًّا للصوفيَّة، فأراد إصلاحَ هذا الأمر، وقال للباشا: «هذا الرجل من كبار العلماء والأولياء، ولا ينبغى التعرُّض له، وأمَرَه أنْ يعقد درسًا بالجامع الأزهر، فقرأ فى المدرسة الطيرسية «الأربعين النووية»، وحضره معظم العلماء المعترِضين عليه، فبهر عقولَهم بعلمه الغزير».
وهنا تجلَّت حكمةُ الشيخ الشبراوي؛ حيث صرَف الشيخ الصوفى إلى نشْر العلم، ودراسة الحديث، وصرَف أتباعَه من عمل الضجَّة والضوضاء.
وهناك موقفٌ آخَر يتجلَّى تسامحه فيه، وهو موقفه من النصارى، يقول الجبرتي: «يُذكر أنَّ نصارى الأقباط قصدوا الحجَّ إلى بيت المقدس، وكان كبير النصارى -ويسمَّى فى ذاك الوقت (نوروز)- كاتبًا عند رضوان كتخدا.
فتكلَّم الشيخ «الشبراوي» فى ذلك، وأصدر فتوى موجزها: «إنَّ أهل الذمَّة لا يُمنَعون من ممارسة دِياناتهم وزيارتهم للقدس»، فهلَّل الأقباط لهذا، وأقاموا احتفالات ضخمة، والواقع أنَّ فتوى الشيخ الإمام صحيحة، وأهل الذمَّة لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولهم حريَّة العبادة طبقًا لشعائرهم الدينيَّة، وهذا هو حلم الإسلام وسماحته.
والشيخ «الشبراوي» هو أوَّل مَن أدخل العلوم الحديثة بالأزهر، وبخاصَّة الرياضيات وعلوم الاجتماع، إضافةً للعلوم الدينيَّة والعربيَّة، والعلوم النقليَّة والعربيَّة
وفاته
كان الشيخ الإمام عبدالله الشبراوى قطبًا من الأقطاب، وعلمًا شهيرًا من الأعلام، ولو شئنا أنْ نستقصى مناقبه وفضائله وما أسداه للأزهر ولعلماء الأزهر ولطلاب الأزهر، لضاقَتْ بها المجلدات؛ لأنها حياة طويلة حافلة، بلَغ مَداها الثمانون عامًا كلها عمل وكفاح، خمسة وأربعون عامًا منها قضاها وهو شيخٌ للأزهر، فجزى الله هذا الإمامَ الجليل على جهوده خلالَ هذا العمر جزاءَ المجاهدين والمقاتلين فى سبيل الإسلام والمسلمين، وإعلاء كلمة الله ابتغاءَ وجهه الكريم، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، وأخيرًا فى يومٍ حزين خيَّمت على الأزهر سحابةُ حزنٍ عميق؛ فلقد لبَّى عالمنا الجليل نداءَ ربه الكريم، وفاضت رُوحه الطاهرة صبيحةَ يوم الخميس السادس من ذى الحجة سنة 1171هـ.
وكالمعتاد أُجرِيت له مراسيمُ الجنازة الرسميَّة فى مشهدٍ مهيب رهيب حضَرَه العامَّة والخاصَّة والأمراء والأعيان والعلماء، كلهم صلوا عليه فى الأزهر.