الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الصحابة..عمير بن وهب




المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - يعتمد علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»! (2)، وقال صلي الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم.
إنه عمير بن وهب -رضى الله عنه- كان واحدًا من قادة قريش، وبطلاً من أبطالها، كان حادَّ الذكاء، وداهية حرب، طلب منه أهل مكة يوم بدر أن يستطلع لهم عدد المسلمين الذين خرجوا مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) للقائهم، ويعرف مدى استعدادهم.
فانطلق هذا الداهية يترقب حول معسكر المسلمين، ثم رجع يقول لقومه: إنهم ثلاثمائة رجل، أو يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، وكان تقديره صحيحًا، ثم سأله قومه: هل وراءهم مدد أم لا؟ فقال: لم أجد وراءهم شيئًا، ولكنى رأيت قومًا وجوههم كوجوه الحيات، لا يموتون حتى يقتلوا منا أعدادهم، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم.
والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير العيش بعد ذلك؛ فانظروا رأيكم. فتأثر عدد من زعماء قريش بكلامه، وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون إلى مكة بغير قتال، لولا أن أبا جهل أيقظ فى نفوس الكفار نار الحقد، وأشعل نار الحرب، ولما نشبت المعركة كان عمير بن وهب أول من رمى بنفسه عن فرسه بين المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين على قريش، وعادت قوات قريش إلى مكة تجر خيبتها وراءها.
وبعد بدر، أقبل عمير بن وهب على ابن عمه صفوان بن أمية وهو جالس فى حجر الكعبة، وأخذا يتذكران ما حل بأهل مكة يوم بدر، فقال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر، فقال عمير: صدقت، والله ما فى العيش خير بعدهم، ولولا ديْن عليَّ لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى؛ لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لى عنده علة (سببًا) أعتكُّ بها عليه: أقول: قدمت من أجل ابنى هذا الأسير، وكان ابنه وهب قد أسر يوم بدر، ففرح صفوان وقال له: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالى أواسيهم وأرعاهم.
فقال عمير لصفوان: اكتم خبرى أيامًا حتى أصل إلى المدينة، ثم جهز عمير سيفه وسنَّه، وجعله حادًا، ووضع عليه السم، ثم انطلق حتى وصل إلى المدينة، وربط راحلته عند باب المسجد، وأخذ سيفه، وتوجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فرآه عمر بن الخطاب، فأسرع إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: يا نبى الله، هذا عدو الله عمير بن وهب جاء رافعًا سيفه، لا تأمنه على شىء، فقال (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (أدخله عليَّ).
فخرج عمر، وأمر بعض الصحابة أن يدخلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويحترسوا من عمير، وأمسك عمر بثياب عمير، ودخل به، فقال (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (تأخَّر عنه ـ أى اتركه وابتعد عنه)، وقال لعمير: (اقترب يا عمير)، فاقترب عمير من الرسول (، وقال: انعموا صباحًا (وهى تحية الجاهلية)، فقال له (صلى الله عليه وسلم): (قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة).
ثم سأله (صلى الله عليه وسلم): (فما جاء بك يا عمير؟) فقال عمير: جئت لهذا الأسير عندكم (يقصد ابنه وهبًا)، تفادونا فى أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم): (فما بال السيف فى عنقك؟) قال عمير: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا؟! إنما نسيته فى عنقى حين نزلت، ثم قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (أصدقنى يا عمير، ما الذى جئت له؟) فقال عمير: ما جئت إلا فى طلب أسيري.
فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (بل قعدت أنت وصفوان بن أمية فى حجر الكعبة، ثم قلت: لولا دين عليَّ وعيال عندي؛ لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان ذلك، والله حائل (مانع) بينك وبين ذلك)، فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بينى وبين صفوان فى الحجر، لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام، ففرح المسلمون بإسلام عمير فرحًا شديدًَا. فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: (علموا أخاكم القرآن، وأطلقوا أسيره) [أخرجه ابن هشام وابن جرير].
هكذا أسلم عمير بن وهب، وأصبح واحدًا من أولئك الذين أنعم الله عليهم بالهدى والنور، يقول عنه عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- عندما أسلم: والذى نفسى بيده، لخنزير كان أحب إلىّ من عمير حين طلع علينا حين رآه فى المدينة وهو قادم على الرسول (ليقتله)، ولهو اليوم أحب إلىّ من بعض ولدي.
وبعد أيام قليلة، ذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائلاً: يا رسول الله، إنى كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وإنى أحب أن تأذن لى فألحق بقريش، فأدعوهم إلى الإسلام، لعل الله أن يهديهم، فأذن له الرسول).
وفى الوقت الذى آمن فيه عمير بالمدينة، كان صفوان يقول لقريش: أبشروا بفتح يأتيكم بعد أيام ينسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يخرج كل صباح إلى مشارق مكة يسأل القوافل القادمة من المدينة: ألم يحدث بالمدينة أمر؟ هل قتل محمد؟ وظل على هذا النحو حتى قال له رجل قدم من المدينة: لقد أسلم عمير. فغضب صفوان أشد الغضب، وحلف ألا يكلم عميرًا أبدًا، ولا يعطى له ولا لأولاده شيئًا.
وعاد عمير بن وهب إلى مكة مسلمًا، وراح يدعو كل من يقابله من أهل مكة إلى الإسلام، فأسلم على يديه عدد كبير، ورأى صفوان بن أمية، فأخذ ينادى عليه، فأعرض عنه صفوان، فسار إليه عمير وهو يقول بأعلى صوته: يا صفوان أنت سيد من سادتنا، أرأيت الذى كنا عليه من عبادة حجر والذبح له؟ أهذا دين؟ اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. فلم يردَّ عليه بكلمة.
وفى يوم فتح مكة، لم ينس عمير صاحبه وابن عمه صفوان بن أمية، فراح يدعوه إلى الإسلام، فشد صفوان رحاله نحو جدة، ليذهب منها إلى اليمن، وصمم عمير أن يسترد صفوان من يد الشيطان بأى وسيلة، وذهب إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) مسرعًا، وقال له: يا نبى الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه قد خرج هاربًا منك، ليقذف بنفسه فى البحر فأمنه (أى أعطه الأمان)، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم): (قد أمنته)، فقال عمير: يا رسول الله، أعطنى آية (علامة) يعرف بها أمانك، فأعطاه الرسول (صلى الله عليه وسلم)عمامته التى دخل بها مكة.
فخرج عمير بها حتى أدرك صفوان وهو يريد أن يركب البحر. فقال: يا صفوان فداك أبى وأمي، الله الله فى نفسك أن تهلكها، هذا أمان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد جئتك به. فقال له صفوان: ويحك، اغرب عنى فلا تكلمني، فقال عمير: أى صفوان، فداك أبى وأمى، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، عزه عزك، وشرفه شرفك. فقال صفوان: إنى أخاف على نفسي، فقال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم.
فرجع معه وذهبا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال صفوان للنبى (صلى الله عليه وسلم): إن هذا يزعم أنك قد أمنتنى. فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (صدق)، فقال صفوان: فاجعلنى فيه (أى فى الإيمان) بالخيار شهرين. فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (بل لك تسير أربعة أشهر) [ابن هشام].
وتحققت أمنية عمير وأسلم صفوان، وسَعِد عمير بإسلامه، وواصل عمير بن وهب مسيرته فى نصرة الإسلام، حتى أصبح من أحب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ونال عمير احترام خلفاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعاش عمير بن وهب حتى خلافة عمر بن الخطاب -رضى الله عنه.