
هناء فتحى
كان وحيداً
وبالرغم من عبثية ذلك المشهد الأخير الذى انتهت به كل دراما وحكايا عمر الشريف، وبالرغم من بؤس ذاك المشهد وقسوته مختتمًا به مسيرة حياته الصاخبة، إلا أن هذا المشهد الذى لم يستطع أن يقصه مقص رقيب أو أن يتدخل عمر الشريف نفسه ليلغه فى المونتاج قد حدث بالفعل، قد حدث ليس فقط ليؤكد أسطورة حياته وموته بل لتثير قصة موته تحديداً صخبا جديدا مضافاً لكل صخب ليالى سنوات عمره الـ83، وقصة موته تلك لم ترق لادعياء الدين وكلاء الله زورا مالكى مفاتيح الجنات وأبواب الجحيم، ليلة موت عمر الشريف أربكت حسابات إخواننا البعدة، وردت إليهم فتاواهم المزيفة: فعمر المسيحى أحياناً والمسلم فى البطاقة واليهودى فى صالات السينما ونوادى القمار، واللادينى دائماً قد مات فى الـ 10 الأواخر من رمضان!! كالأولياء أو المرضى عنهم أو الطيبين.
لقد نالها ميشيل ديمترى شلهوب.. هل فتح أى سلفى فمه؟
وبالرغم من ذلك الجدل الذى صاحب وداعه ومكان دفنه والمغزى والمقصد والمآل، إلا أننى لا أظن أن عمر الشريف كان سيقبل بذلك المشهد - العسير القاسى مريضاً منسيا فى مستشفى للطب النفسى - ختاماً لحياته الحافلة أو حتى ختاماً لأفلامه الشهيرة، لا أظنه كان سيقبل حتى مجرد تمثيله ولو تقاضى مقابله أعلى أجر، ولو دفعت له كبرى شركات هوليوود ملايين الدولارات: فأن يحيا «هكذا» ثم يموت «هكذا»؟ أن يحيا «هكذا» نورا ونجما ساطعا هائما فى زرقة السماء الأولى أو فى تموجات الشاشة الفضية تحوطه النسوة الجميلات من كل كادر وكل بلد، خدم وحشم وحاشية وجماهير، أموال وشرب ولعب ونسوة رائعات، ثم يموت «هكذا» وحيداً منسيا مريضًا هائما بلا صاحبة أو معجبة أو حبيبة؟
لهذا أظن أن عمر الشريف قد أرغم على أداء أصعب مشاهده على الإطلاق فى السينما أو فى الحياة، وهكذا تكتب الأساطير.
حقا، كان مشهد مرضه ووحدته وفقده لمجمل ذكرياته مشهدا مجانيا لم يتلق مقابله أجرا ولم يمض من أجل تمثيله عقدا وأظنه تمنى لو لم يشاهده أحد سواه، مشهد لم يتدخل عمر الشريف كعادته فى كتابته، فهل كان يدرك أنه آخر أدواره؟ وكعادته كممثل عبقرى يستطيع أن يتلبس أى دور وشخصية ومشهد فقد أدى مشهده الأخير ببراعة وسلاسة، وكأنه كان منصاعًا ومنتظرا إسدال الستار أو اظلام الشاشة للمرة الأخيرة .
لقد نالها ميشيل ديمترى شلهوب، هل فتح أى سلفى فمه؟
نعم لأول مرة يصبح لعمر الشريف دينا واضحا ووطنا واضحا ولأول مرة يصبح له بيتا، عاش فى الدنيا وحيداً، لكنه مات فى (عزوة) كان وحيداً رغم الشهرة والأضواء والأموال وزحام الناس من حوله، ولم يمتلك بيتا! ولم تكن له بعد فاتن حمامة زوجة أخرى، عاش وحيداً؟ نعم.
لو شاهد عمر الشريف جنازته وتأمل مرقده لأدرك أن الموت منحه مالم تمنحه له الحياة بكل صخبها وألقها وبهجتها، فالرجل الذى جاب بقاع الدنيا وعاش فى أجمل أحياء الكون ولم يكن يمتلك شقة أو حتى حجرة فى أى (حتة) ولا فى مصر، ولم يعرف بدنه الا النوم فى الفنادق، ها هو الموت وحده قد منحه بيتا مكتوباً عليه اسمه، بيتا لن يبيعه ولن يستبدله، الموت وحده هو مَن منح عمر الشريف بطاقة هوية: «مصرى؟ نعم، ألم يدفن فى مصر ؟. مسلم؟ نعم، ألم يدفن فى مقابر المسلمين؟. وآخر أسمائه كان حصريا وفقط: «عمر الشريف»، هكذا سجلوه فى بطاقة الموت، شهادة الوفاة»
لقد نالها عمر الشريف.. هل فتح أى سلفى فمه؟