السبت 21 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
بيت يطل على المقابر

بيت يطل على المقابر






فيما كان يفكر ذاك الرجل الذى أسس مدينة نيويورك حينما كانت أمريكا قارة مجهولة لم تطأها قدم؟ وكيف طاوعه قلبه لينشئ بين كل مربع سكنى كومباوند من المقابر؟ المقابر هنا لا تقع جغرافياً فى مكان قصى عن العمران يذهب إليه الأحياء فى الأعياد وعند دفن الموتى.. أو يتسلل إليه الفقراء ويتخذونه  بيوتا لهم  كما بلادنا! المقابر هنا فى كل حتة تروحها وكل حتة تخرج منها. فأينما تولى وجهك تقابلك أرواح و«روايح» الذين ذهبوا.
مربكة هى الحياة.. ومدهشة ذلك ولم تقدم لنا ولم تمنحنا أى إجابات حتى ندرك الملغز والمبهم منها وفيها وبها؟
البشر فى أربعة أرجاء الدنيا يحلمون ببيت يطل علىٰ البحر أو النهر أو المحيط أو «القناية».. وآخرون - وأنا منهم - يحلمون ببيت ناحية الجبل.
لكن هنا فى مدينة نيويورك أنت تحمد الله كثيراً لأن بيتك يطل علىٰ «الترب» -جمع تربة أى مقبرة - فالمدافن تخترق الشوارع والجامعات والملاعب والمتنزهات والمطاعم  والمولات والديسكوهات.
هنا الموت فى مواجهة الحياة يتجليان ويتحديان بعضهما فى صفاقة ووضوح.. لا غلبة لأحدهما علىٰ الآخر.. ولا جلال ولا سكينة ولا خشوع، ولا خوف من الأشباح التى تتسلل فى المساءات المعتمة لتخاتل السائرين فى الطرق «المقطوعة» وتصيبهم بالصرع والجنون.. هنا لا تخرج الأشباح للناس أبدا ولا تفكر فى ذلك.. هنا لا يعالج أى نيويوركى من المس.. من الجسد الملبوس.. ولا أعتقد أن الأدب الشعبى  النيويوركى يحفل ويذخر بحكايا الجنة والأرواح  والاشباح والشياطين والمردة.. بالعكس ربما لديهم حكايا عن الأحياء الذين يخيفون الموتى ويصيبون الجماجم بالرعب.. يتجلى الأدب الشعبى الأمريكى أكثر ما يتجلى فى أفلام الأكشن.. أفلام الفامبير وكائنات الفضاء.. ربما لديهم مسلسل وحيد شهير اسمه walking dead يتحدث عن الموتى الذين يخرجون من الأجداث جوعى ليأكلوا لحوم الأحياء - نفس فكرة كائنات الفامبير ومصاصى الدماء - وكأن الموتى ماتوا جعانين يا عينى وقاموا يبحثون عن طعام وشراب..  وطعامهم لحوم حية فهم فى المسلسل لا يأكلون بعضهم.. ولا يأكلون الخنزير.
أحتاج إلى 1000 معالج  نفسى.. و1000 عالم اجتماع ونفس العدد  مهندس مدنى  ليشرحوا لى كيف كان يفكر ذاك الرجل  الغريب الذى أسس مدينة نيويورك  حينما خط بقلمه على الموافقة للشكل النهائى لمدينة نيويورك..  ثم سار على دربه كل عمدة وكل محافظ بحيث  تكون من  أولوياتهم ومهامهم العمل علىٰ إنجاز كومباوند مقابر معتبر فى وسط كل مربع سكنى؟ علشان هنا  للجميع حقوقهم.. حتى الموتى يموتون بكبرياء.
تستطيع أن تقرأ  بسهولة تاريخ وإنجازات كل ميت مخطوط على شاهد قبره.. وتستطيع أن تقرأ تاريخ أو سياسة مسجلاً على جدارية كومباوند الموتى.. فهناك مقابر تم تأسيسها مؤخراً لقتلى أحداث 11 سبتمبر مقامة مباشرةً أمام برجى وول ستريت.. وهكذا لكل حادثة مقبرة ولكل حديث مقال.
المقابر هنا فى نيويورك  يعاملها المسئولون  معاملة المتاحف.. والمتاحف هنا تنتشر فى كل شارع وكل عطفة وكل حارة - مفيش فى نيويورك لا عطفة ولا حارة - ومثلما  هناك متاحف للفنون وللتراث وللشجر وللحيوان وللصراصير - نعم هناك متاحف للصراصير والبق - مثلما هناك متاحف الموتى! هذهِ البلاد لا تهمل تاريخها.. رغم أنه تاريخ قريب حوالى 300 سنة  يادوب.. وليس حضارة 7000 سنة من القهر.