السبت 20 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
رسالة حب من نزار قبانى إلى نجيب محفوظ!

رسالة حب من نزار قبانى إلى نجيب محفوظ!






منذ 28 عاما استيقظت مصر على واحد من أجمل الأخبار التى أسعدت شعبا بأكمله، كان الخبر هو فوز سيد الرواية العربية الأستاذ الكبير «نجيب محفوظ» بجائزة نوبل للآداب.
ووسط هذه الفرحة الطاغية خرج بعض المثقفين يهاجم نجيب محفوظ، بل ويشكك فى قيمة الجائزة نفسها، وخرجت عشرات الأقلام العربية تهاجم نجيب محفوظ ليس بسبب رواياته بل لموقفه من التطبيع مع إسرائيل.
ووسط ذلك كله تلقى «نجيب محفوظ» رسالة نادرة من الشاعر العربى الكبير «نزار قبانى» أسماها «رسالة حب إلى نجيب محفوظ»، كانت كلمات الرسالة العربية بمثابة صفعة لمن هاجموا «نجيب محفوظ» وفى هذه الرسالة الجميلة والنبيلة التى نشرها الأهرام يوم 7 نوفمبر 1988 يقول:
«فوز الروائى الكبير «نجيب محفوظ» بجائزة نوبل هو أول فرحة ثقافية فى حياة العرب بعدما كسرت السياسة آمالهم وأجهضت أحلامهم، ورمتهم فى بئر من الأحزان!
الثقافة فرح لأنها تجمل الحياة، وتجعل البحر أكثر زرقة والنجوم أكثر عددا والسماء أكثر اتساعا، والإنسان أكثر رقيا، أما السياسة فتقطع كل الأشجار وتلوث كل الأنهار وتعتقل كل العصافير، وتكذب على الناس فتقنعهم أن الوزراء كانوا فى الأصل ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يقربون النساء ثم غيروا عاداتهم بعدما صدرت مراسيم تعيينهم، كما تقنعهم أن الحصول على مقعد فى الأتوبيس يعادل الحصول على مقعد فى الجنة، وأن رغيف الخبز الأسمر الذى يأكلونه، كان فى الأصل دينارا ذهبيا فى عصر الخلفاء الراشدين!
جائزة نوبل هى التى ربحت نجيب محفوظ لا العكس!
وهذا يدفعنى إلى التساؤل: من هو الأهم؟! من أخذ الجائزة؟ أم من أعطاها؟! الجائزة هى رقعة من الورق موضوعة داخل برواز وملفوفة بشريط حريرى.. وهذا كل شىء، أما الذى حصل على الجائزة فهو غابة مشتعلة من الأنسجة المحترقة والشرايين المفتوحة والأعصاب المكهربة والقلق والغضب والتوتر العالى، والجنون، ولا يمكن لأحد أن يطفىء هذه الغابة المشتعلة أو يضع الجنون فى برواز!
ويمضى «نزار قبانى» قائلا: «هذه الليلة نحتفل بزواج واحد من كبار مبدعينا، العريس فتى أسمر من مصر اسمه» «نجيب محفوظ» والعروس فتاة سويدية شقراء لا تعرف من اللغة العربية إلا كلمة «وحشتنى»، ومطلع أغنية «يا نخلتين فى العلالى بلحهم دوا»، ومع هذا حصلت القسمة والنصيب، وبدأت الزوجة السويسرية تتأقلم مع آداب تعاطى الشيشة فى «مقهى الفيشاوى»، وصارت تعرف كيف تحسم 90٪ من الأسعار التى يطلبها أصحاب الدكاكين فى خان الخليلى!
نجيب محفوظ ملك من ملوك الرواية العربية الحديثة، ملك متواضع وبسيط وديمقراطى وشعبى وطيب القلب ومثابر ومنظم ومنضبط كساعة أوميجا، يكره النجومية والملابس المسرحية، ولو استطاع أن يذهب إلى «ستوكهولم» ليتسلم جائزة نوبل وهو فى البيجاما  لذهب!! لا استعراضية ولا عنطظة ولا بوزات مدروسة، إنه يرتبك أمام فلاشات المصورين كما يرتبك العصفور أمام صياديه!
نجيب محفوظ واحد من «أولاد حارتنا» يقيم صداقات يومية مع بائع الجرائد، وبائع الحليب، وصبى المكوجى ويقف بالطابور أمام بائع الفول، ولديه بدلتا «سفارى» واحدة ينام فيها والثانية يستحم فيها!!
«نجيب محفوظ» تلميذ مجتهد يكتب فروضه المدرسية بانتظام.. ناسك يؤدى الصلوات فى أوقاتها، مجاور يجلس تحت أعمدة الأزهر، قديس يلبس جلابية بيضاء ويتجول فى الشوارع الخلفية ويسجل على دفتر صغير آهات المتأوهين، وأنين المسحوقين ودموع المعذبين فى الأرض.
«نجيب محفوظ» ملتزم بالوجع الإنسانى، ملتزم بقضايا البشر، لا بقضايا الملائكة وساقاههما أقدم سيارة مرسيدس، دخلت إلى مصر! نجيب محفوظ راهب من رهبان الكتابة والأدب العربى بحاجة إلى رهبان ونساك ومتعبدين لا إلى عصابات أدبية وميليشيات ثقافية وقاطعى الطريق.
وفى نظرى أن أخلاق «نجيب محفوظ» ونقاءه الروحى وطهارته الداخلية والخارجية هى التى ربحت جائزة نوبل قبل أن تربحها أعماله الأدبية!
يا صديقى نجيب محفوظ: مبروك عليك جائزة نوبل التى ربحتها بعرق جبينك واحتراق أعصابك وصهيلك الشجاع على الورق على مدى خمسين عاما ولم تربحها على طاولة الروليت أو من سمسرة السلاح!
كما أود أن أطمئن السيدة العزيزة زوجتك أن الجائزة المالية لها وحدها، فالمرأة التى تحتمل كاتبا ينام مع ورقة الكتابة ويصحو معها وتهيئ له المناخ الحضارى والنفسى لينتج ما أنتج من روائع وتسمح له أن ينجب من المرأة الثانية - التى هى الرواية - خمسين طفلا جميلا هى بلا شك قديسة من القديسات وفدائية من الفدائيات.
فيا من زرعت مآذن سيدنا الحسين على ضفاف بحر الشمال، ويا من جعلت حمائم الأزهر تحط على أبراج الكاتدرائيات السويدية، ويا من جعلت «الملاية اللف» زيا قوميا لعام 1988 ترتديه جميع النساء فى العالم.
كم نحن فخورون بك.. كم نحن كبيرون بك!
«جنيف 5/11/1988 أخوك نزار قبانى».
انتهت الرسالة بحروفها الصادقة وكلماتها النبيلة، رحمهما الله كما كنا فخورين بهما وكبيرين بهما أيضا: نجيب ونزار!!