
هناء فتحى
الموت الأمريكى
لم يكن موت الممثلة الأمريكية الشهيرة «كارى فيشر 28-12-2016» وحده هو المشهد الحزين الذى تجلى لى وبوضوح وصدق من قلوب الجماهير الأمريكية التى روعها رحيل بطلة سلسلة أفلام «حرب النجوم»، فطريقة وملمح حزنهم من أجل رحيل «كارى فيشر» يشبه ذاك العويل الذى يطلقونه دومًا خلف جنازات مشاهيرهم فى الفن..
يعنى شوية شوية وحبة حبة وينسوا.. لكن هد موت والدة «كارى فيشر» 29 -12 -2016، «ديبى رينولدز» وبعد يوم واحد من وفاة إبنتها، وهى أيضًا الممثلة الأمريكية الأكثر شهرة بطلة أشهر أفلام هوليود الاستعراضية الغنائية: «Singing»، مشهد الأم وهى تدعو الله مكلومة كىّ تموت وتدفن مع ابنتها فكيف تعيش بينما ابنتها تموت قبلها ؟! قائلةً فى لوعة وتضرع : I want to be with Carrie.. ثمّ مشهد أبواب السموات السبع وهى تفتح وتستجيب لنحيب الأم فتموت بعد ساعات قلائل من موت ابنتها.. بل يحرق جثمانهما معا ويوضعان فى قنينة واحدة.. ويدفنان فى ذات الوهلة والمكان.
هذان المشهدان هما ما جعلا للموت الأمريكى- فى مخيلتى المشوشة والمتوجسة تجاه احزانهم - قيمة وجلالًا.. إن حزن الأم الأمريكية يشبه احزاننا.. يشبه حزن الأم الصعيدية عند وفاة أحد أبنائها.. تلك المقولة البليغة التى ترددها دومًا: «يجعل يومى قبل يومهم» كنت أعتقد طويلًا أن الشعب الأمريكى لا يحزن ولا يعبأ بموتاه.. ولم لا؟ وأسلحتهم وطائراتهم وعملائهم يقتلون أطفال العالم دون طرفة عين.. فلماذا إذن يزلزلهم الموت هكذا مثلنا؟.
ثمة مشاهد أخرى أكبر من قدرتى على استيعاب احزانهم، مرتبطة بالموت الأمريكى - المصطلح الذى اخترعته توا - مشاهد بعضها خاص جدا وبعضها شائع: فى الحقيقة كنت أتعالى عليهم بأحزانى الكبيرة ومنذ أن وطأت أقدامى أراضيهم.. أنا ابنة مجتمع دائم الحزن.. شحيح الفرح.. فمن أول وهلة خطت فيها قدماى الأرض الأمريكية وأنا فى حالة مقارنة صامتة بين الموت المصرى والموت الأمريكى منذ أن دعانى أخى الذى يعيش بأمريكا لزيارته.. فى مطار جون كيندى كان فى استقبالى ومعه مفاجأة - هكذا أخبرنى ونحنُ نقطع شوارع نيويورك وحدائقها ومدافنها المنتشرة فى كل مربع سكنى: حين قاد سيارته من المطار للبيت مسرعًا -علشان أقابل المفاجأة - رفض أن يلمح لى عن هذه المفاجأة.. كانت أول رحلة سفر بعد غياب أمى.. فى البيت حين وصلنا.. لم أعر اهتماما باللون الاخضر الذى يملأ أرجاء المكان.. إلا حين أخرج لى المفاجأة: ملابس وأغطية النوم كلها لونها أخضر.. وقال لى فى فرح وحبور: أحضرت لك أشياء كلها لون كفن أمى!
كانت أمى قد اشترت منذ سنين طوال كفنها الأبيض ومعه قطعة ستان خضراء أعجبها اللون والنعومة وتخيلت مشهدها وهى متأنقة ترفل فى اللون الأخضر.. أذكر أنهم بعد سنواتٍ وحين ألبسوها كفنها رفضوا وضع قطعة الستان الخضراء لأنها لاتتفق والشرع.. لكن أخى الذى تحول لثور هائج شرس أصر أن ينفذ أوامر أمه وسار بالجسد معهم حتى رقدته وراقب القبر وهو يغلق عليها وفوقها الستان الأخضر.. منذ تلك اللحظة هكذا قال لى صار لا يشترى شيئا ليس لونه أخضر.
لأسباب عدة ارتبطت زيارتى السنوية لأمريكا بطقوس الموت وذائقة الغياب المر.. تمامًا وكأننى فى رحلة موسمية إلى المقابر وعزز هذا الشعور كثرة المقابر التى تخترق البنايات فى كل المدن الأمريكية.. مقابر تلفها الحدائق من أربع جهات مقابر خضراء تشبه كفن أمى.