الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«المصادفة» تنتصر لمصر القديمة

«المصادفة» تنتصر لمصر القديمة






سهير المصادفة شاعرة وروائية مصرية حتى النخاع، شرسة فيما يخص مصريتها، تعشق تراب هذا الوطن، لا تزايد عليه، لها رؤيتها الخاصة التى شكلت مشروعها الفنى الذى وصل لثلاثة دواوين شعرية وخمس روايات ؛ هن، لهو الأبالسة، ميس إيجيبت، رحلة الضباع، بياض ساخن، وروايتها المهمة الأخيرة» لعنة ميت رهينة» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، والتى انتصرت فيها لصالح عاصمة مصر القديمة ميت رهينة، ولم لا؟ وهى عاصمة الحضارة الإنسانية الفرعونية منذ فجر التاريخ، وفخرها الذى تعتز به الكاتبة، فكان عليها أن تنتصر لميت رهينة التى تراها تتدهور أمام عينيها دون أن يحرك أحد ساكنا لكى ينقذها مما وصلت إليه، فاتخذت  من الإجراءات الروائية والسردية المناسبة والتى تناسب هذا التردى لكى تخرج بالعاصمة «ميت رهينة» من تلك الحالة السيئة التى وصلت إليها، وحولتها إلى مرتع للقمامة والفساد والبلطجة والتدين الشكلى وتجارة المخدرات وسرقة الآثار.
والجميل أن الرواية انتهت بالتخلص من ميت رهينة القرن الواحد والعشرين الملآنة-الآن- بالفساد والقاذورات والفاسدين والمستغلين والطامعين القادمين لها من كل فج عميق، وعادت بنا ثانية فى الختام  إلى ميت رهينة التى تحلم الكاتبة  بها،بعيدا عن ميت رهينة المسخ الجديد، التى تم تشكيلها حديثا وبناء جزء مهم منها كقصر لآدهم الشواف، كان تحته مقبرة أثرية - قصر الشواف- حافظ عليها من اللصوص برؤية تناسبه، استوطنها المواطن السعودى آدهم الشواف الذى ترك المملكة  واستقر فى ميت رهينة الجديدة، بعدما  تزوج من هاجر البنت المصرية الشعبية البسيطة، ابنة الرجل البسيط الفقير لطفى مرجيحة، والتى جذبته بجمالها الأخاذ  وأنجت له ليلى الشواف البنت الجميلة المتحررة، والتى أنجبت نبتة شيطانية - نور- من علاقة ليست شرعية مع الدكتور الأمريكى الموسيقى نور الدين الذى طلب منها أن يفكا ارتباط تلك العلاقة بعدما مل منها، والمفارقة أنها أطلقت على تلك البنت نور، استطاعت - هذه - النور - التى كانت ظلاما على كل الفاسدين، بما فيهم والدها الدكتور أن تتخلص من كل الذين أساءوا إلى ميت رهينة، فكانت أداة مهمة للتخلص من كل تلك الشخصيات فى النهاية، وكأن روح الكاتبة المحبة جدا لهذا الوطن كانت تقتص من كل تلك الشخصيات الغريبة عليه، التى ليست من أرضه ومن روحه،حتى ولو كانت تنتسب إليه جنسية بورق رسمى يؤكد ذلك.
  أرى أن الكاتبة سهير المصادفة جعلت تلك الفكرة هى ماهية الرواية، فحين انتصرت لعاصمة مصر القديمة ميت رهينة، هى فى الحقيقية انتصرت لمصر الآن مصر التى ترى أنها تستوعب كل شيء وترحب بكل الثقافات وكل الديانات وتقبل التعايش فى سلام بين الجميع، ولا تقبل التشدد ولا التطرف فى أية لحظة من تاريخها، وتبحث دائما عن الحياة والوئام ولا تجنح إلى غير ذلك، وهذا ما اختتمت به روايتها فى سطورها الأخيرة حين قالت بعدما فجرت ميت رهينة الجديدة ص 270» تحول الليل إلى نهار فجأة ودون سابق إنذار حيث أشرقت الشمس كعادتها،التى لم تخلفها ميت رهينة منذ آلاف الأعوام،و مع تواصل صعودها إلى منتصف السماء، كان قصر أدهم الشواف قد اختفى، كأنه لم يوجد يوما على هذه الأرض.. كانت وحدها بركة هاجر هى الباقية والناجية  وكأنها رأت أن  تعود بميت رهينة لتاريخها القديم، قبل أن يبنى الشواف قصره وقبل أن يتواجد الأمريكى نور الدين، كما اختفى بالطبع أصحاب التدين الشكلي، المغتصبون للفتاة سارة أخت مايكل الذى تزوج ليلى بكندا بعد أن أسلم، وتم ذلك فى عز النهار بحجة أنها أخت هذا المايكل، ولم ينقذها إلا صلاح، صديق نور وتوأمها والمتسق مع ذاته فى هذه الرواية والبطل الحقيقى فى مواجهة هذا القبح، أنقذها بعض أن سمعتهم يقولون: «سكتنا وتحملنا كفرهم، فتماديتم وركبتم نساءنا».
 كانت تلك هى المعادلة الصعبة التى تبناها أصحاب التدين الشكلى لكى يسيئوا للإسلام السمح الوسطى، بأن ينتقموا من أخت مايكل، الذى أقام علاقة غير شرعية مع ليلى الشواف، ناسين تماما أنه لا يؤخذ أحد بذنب آخر، فهجم عليها أكثر من عشرين من أصحاب اللحى المزيفة واغتصبوها فى الشارع .
وكانت نور من الشخصيات المفارقة داخل الرواية والتى قامت بفعل التخلص من هؤلاء جميعا، ورغم أن الكاتبة سهير المصادفة شكلت شخصية نور بشكل غرائبي، إلا أنها كانت منطقة لمجموعة الأحداث التى تمت بعد ذلك، فهل كان بها مس من الشيطان والسحر الذى يساعدها على فعل كل شيء تريده؟ أم أن قدرتها وذكاءها الخارق هو الفيصل؟ وأنا أسترح فى الحقيقة لقدرتها الخارقة التى تتواجد لدى بعض البشر، فكانت البنت السابقة بعمرها العقلى الجميع لدرجة أنها تستوعب كل ما يقوله المعلم وتتفوق عليه، الغريب أن شخصية عبد الجبار، الرجل القوى بالراوية يخاف منها ويخشاها، تقول المصادفة ص 152: « كم كان يخافها عبد الجبار !حاول ذات مرة أن يستدرج أمها لتحكى له لماذا ابنتها على هذه الهيئة حتى أنها تخيفها عن أهل القرية، فنهرته ليلى طالبة منه بحسم ألا يفتح هذا الموضوع ثانية، وأن يهتم أكثر بتطوير أدواته كسارق».
والمفارق أن تلك البنت أكتشف سر جدها آدهم الشواف، وسر المقبرة التى بناها فوق المقبرة الأصلية وجعل دخولها من قصره الذى شيده المهندس عمار المصرى من خلال باب المكتبة، لذا يقرر الشواف أن يقتل المصرى ليحتفظ بسر المقبرة، ويرتكب الجريمة التى تكون السبب فى مرضه بمرض غريب بعد أن شعر بالذنب، فأدى ذلك لنقص وزنه لدرجة كبيرة ذكرتنى بما حدث للفنان محمد فوزى، وتبدأ نور فى ممارسة فعل القتل نفسه مع آخرين وبالطريقة التى ارتكبت مع عمار المصرى وكأنها تواصل ما فعله جدها الشواف، وتبدأ سلسلة الاختفاءات الغريبة لبعض ناس ميت رهينة، حتى ساد التوتر والقلق والخوف من هذا الاختفاء القصرى لتلك الشخصيات مثل عبد الجبار وابن ستيتة والدكتور نور الدين والدها وهجرة أمها ليلى وعشيقها مايكل إلى كندا وخروج جدتها هاجر التى أصيبت بالزهايمر دون أن تعود لبركتها وقصرها، وتستطيع أن تفك شفرة السر وتقرر أن تنتقم من كل من أساء لميت رهينة، فتؤكد نور لنفسها بحسم قائلة: «فى هذه اللحظة تحديدا، قررت تنفيذ فكرتي، فماذا لو أننى دفنت كل من أساءوا إلى ميت رهينة فى هذه المقبرة؟!».