الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
جياكوميتى.. غياب الكتلة وحضور الجسد

جياكوميتى.. غياب الكتلة وحضور الجسد






«أحلم دائما أن يكون الإنسان شاهقا مثل بنايات العصر الحديث وأراه دائما مطرقا وطاوى الرأس فى لمسة انكسار» هكذا يصف البرتو جياكوميتتى النحات والرسام السويسرى أعماله الأشهر فى سويسرا منذ النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن يعتبر جياكوميتتى معادلة صعبة على فن النحت حيث عرف بكونه نحاتا أكثر منه رساما فنحن لا نعرف نحاتا فى العصر الحديث صدر لكل المجتمعات الفنية تيمات نحتية أكثر من جياكوميتتى والذى يعتبر بحق صاحب مدرسة كبيرة وثورة على تقنيات فن النحت وهذا ما قاله عنه بابلو بيكاسو حيث وصفه بأنه يتبع نموذجًا فريدًا من ابتداعه هو بحيث تطل علينا شخوصه وكأنها خارجة من بطن حكاية شعبية تروى لطفل لم يتعد سن السادسة.
 كما يصفه ماكس ارنست الفنان السريالى الكبير بأنه فنان ذو شفرة خاصة وعميقة وذو نظرة طليعية لفن النحت.
على أية حال فإن جياكوميتتى يعتبر أشهر فنان سويسرى على الإطلاق باعتبار أن معظم من سمعنا عنهم فى سويسرا كانوا فى الأساس من أصول ليست سويسرية من هنا كان لجياكوميتتى مكانة كبيرة فى سويسرا وفى أوروبا كلها بالطبع، ولد البرتو جياكوميتتى فى أكتوبر عام 1901 فى مقاطعة برجونوفو الواقعة على الحدود الإيطالية وكان لنشأته فى بيئة فنية دور كبيرا فى حياته حيث كان والده جيوفانى جياكوميتتى رساما ينتمى للمدرسة ما بعد الإنطباعية من هنا أظهر البرتو ميلا للفن فأرسله والده ليدرس فى مدرسة الفنون الجميلة فى جينيف وفى عام 1922 سافر جياكوميتتى ليدرس النحت فى باريس وهناك درس على يد انتونيو بورديللى، وأصبح أحد تلاميذ أوجست رودان بشكل غير مباشر وفى باريس بالطبع التى كانت تعج بالفنانين من كل حدب وصوب انضم جياكوميتتى لجماعة السرياليين وأصبح صديقا لبيكاسو وماكس ارنست وجون ميرو، كما تأثر بعض الشيء بتكعيبية بيكاسو كانت المرحلة الإبداعية الأولى لجياكوميتتى فى فن النحت هو التركيز على الرأس البشرية وهذه المرحلة استغرقت من عمره الفنى 4 سنوات وفى هذه المرحلة طغى تأثره بالموديل ايزابيل دلمار صديقة أخيه على معظم أعماله حيث كان يجد فيها نموذجا لرؤيته النحتية وكان دائما ما يردد «أريد أن اصنع رأس بسمك السكين» وهذا ما يفسر فيما بعد اتجاها للمبالغة فى التنحيف ليس فى الرأس فقط بل فى بقية الجسم لكن علينا أن نقول أن ايزابيل لم تكن الموديل الوحيد فى هذه المرحلة بل كان أخوه ديجو جياكوميتتى أحد الموديل المفضلين لديه أيضا ونظرا لنحافته أثرت تلك المقاييس فى جياكوميتتى بدرجة كبيرة، وإذا أردنا أن نحلل جياكوميتتى علينا أن نضع مقاييسه نصب أعيننا لأن النحت مقاييس، كما نعلم وليس علينا أن نتجاهل فلسفة تلك المقاييس حتى نصل إلى عمق التجربة الفنية لجياكوميتتى، بداية يجب أن نقول أن العالم كله استعار مقاييس جياكوميتتى فى قطع فنية كان الهدف منها إثراء فكرة الديكور حيث إن نموذج جياكوميتتى لا يمثل جسدا بشريا بالتحديد بل دعنا نقول شبحا لجسد حيث تبقى فقط بعد الرؤية حضورا لفكره وجود الجسد وهذا ما شجع جياكوميتى فيما بعد إلى الاتجاه إلى التقليل فى الحجم أيضا وليس التنحيف فقط فنحن نجد له فى مراحل لاحقه تماثيل بحجم عقلة الأصبع وأحيانا أقل على الرغم من أن لها نماذج قد تتعدى الحجم الطبيعى للإنسان العادى وقد نصيب إذا قلنا أن جياكوميتتى أقترب أكثر من نموذج النحت البدائى التوتمى والطفولى والفطرى فبعض النقاد يرون ان جياكوميتتى يعبر عن نظرية الفن الفطرى بشكل واع، وفى تقديرنا الشخصى فأن جياكوميتتى يحاول أن يبلور فكرة غياب الكتلة وحضور الجسد كفكرة.
من هنا تعبر فلسفته عن فكرة السمو بالجسد حيث يسقط عنه أحيانا مفاتنه ومثيراته ليظل فقط مجرد رمزا للجسد وهذا يمثله دائما التنحيف المفرط الذى أصبح فيما بعد أهم سماته الأساسية، فى عام 1962 فاز جياكوميتتى بجائزة بينالى فينيسيا الدولى للنحت حيث كفلت له هذه الجائزة شهرة عالمية واسعة وانتشرت نماذجه النحتية المعدنية فى معظم أرجاء أوروبا ونشطت أيضا نماذجه فى التصوير حيث كانت له كتالوجات فيها دراسات لونيه واستيلوجرافيك ومن هنا أصبح جياكوميتتى مدعو لمعظم المناسبات الفنية فى أوروبا حيث أقام معارضا كثيرة بل وتمت دعوته من قبل متحف الفن الحديث فى نيويورك بالولايات المتحدة عام 1965 حيث تم تكريمه هناك فى معرض خاص لأعماله وقام المتحف باقتناء بعض أعماله المميزة، وبعد ذلك وفى خضم هذه الفورة من الشهرة والحركة تدهورت صحة جياكوميتتى وبدأ فى التردد على المستشفيات حيث عانى من أمراض القلب وفى 11يناير 1966 توفى فى احد المشافى السويسرية وتم نقل جثمانه إلى مسقط رأسه بورجونوفو حيث دفن بالقرب من والديه.
يعتبر جياكوميتى من بين 5 نحاتين أثروا فن النحت ثراء كبيرا حيث رؤيته الفلسفية لفكرة تعبير الكتلة عن المشاعر بل وفكرة تبسيط الرؤيا النحتية ويعتبر أيضا صاحب مدرسة التنحيف ذات المقاييس المميزة.