الثلاثاء 15 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
جان دوبفيت مؤسس الأرت مينتال وفارس البساطة فى الفن الحديث

جان دوبفيت مؤسس الأرت مينتال وفارس البساطة فى الفن الحديث






من المؤكد أن للفنون قاعدة مهمة من ناحية الفكرة الفلسفية خاصة الفن التشكيلى بكل أنواعه وهذه القاعدة الفلسفية تختلف باختلاف العصر ومتطلباته لكن من المؤكد أن هذه القاعدة تتأثر بنسبة كبيرة بمتطلبات العصر وخلفياته الفكرية والثقافية بل والسياسية أيضا ففى العصور ذات النزعة الرأسمالية يميل الفن إلى الرفاهية ويأخذ شكلا امبرياليا ويتماحك بعض الشيء بالمنظومة الرأسمالية وعلى الرغم من أن الفنانين العظماء يكونون أكثر تماشيا مع الطبقات الفقيرة ومعارضين للنمط الرأسمالى بكل عيوبه لكن الفن يصبح ذا سمة رأسمالية فى النهاية وما ينطبق على الفن فى عصر الرأسمالية ينطبق أيضا على الفن فى عصر الاشتراكية وهكذا وكما قلنا ليست الكينونة السياسية للعصر فحسب بل أيضا كل خلفياته الفكرية بحيث تلقى الفلسفات المعاصرة للفنان بظلالها على أعماله سواء قصد او لم يقصد. وفى فرنسا تصبح هذه النظريات مثالية فى التطبيق لأننا نجد أن الفنانين الفرنسيين بل وغير الفرنسيين المقيمين فى فرنسا يتأثرون بكل ما تطرحه الساحة الفكرية هناك ويصبح الفنان الباريسى مرآة باريسية 2 / 4 للفكر السائد كما يقول انطوان ريمون صاحب كتاب «الفكر الباريسى والفن التشكيلى»، من هنا كان للفنانين الباريسيين حالة أبداعية خاصة جدا قد نطلق عليها حالة «الغليان الفلسفى وصدمة الواقع» لأن الفنان الباريسى المرهف حينما ينمو يجد نفسه يرتقى فى سلم المثاليات والفكر الشفاف وآفاق الحرية واحترام آدمية الجنس البشرى لكنه حينما يشب عن الطوق سرعان ما يصطدم بالواقع المرير حيث تسقط الأقنعة الأنيقة من فوق الأفكار وتظهر جماجمها النفعية والمادية فيسقط فى بئر من البوهيمية ومتاهة الأفكار الغريبة والمرتكزة على فلسفات أشد غرابة. ويعتبر هذا الإطار هو الإطار الحقيقى لفنانى النصف الأول من القرن العشرين مع كل هذا الزخم الفكرى والسياسى والظلال التى ألقتها الحربان العالميتان على الحالة الفكرية المثالية لفنانى هذه الحقبة الزاخرة بالتنوع والإبداع والتى كان من بين فرسانها الفنان الكبير وفيلسوف الفن التشكيلى الفرنسى جان دوبفيت والذى يعزى إليه تكوين نزعة فنية فلسفية شديدة التميز وهى نزعت «الآرت مينتال» بحيث وجه دوبفيت كل طاقاته لإثبات انه ليس البشر الواعين فقط هم القادرون على خوض معترك العمل الإبداعى بل إن هناك أشخاصا كثيرين ممن يطلق عليهم «غير أسوياء عقليا»، قادرين على تخليق اعمال أبداعية شديدة التميز والرقى من هنا كرس دوفيت جزءا كبيرا من حياته لدراسة هذه الحالة الإبداعية بل وكان نتاج ذلك انه أسس متحفا كبيرا للعديد من هذه الأعمال عرف بل بمتحف الفن الوحشى فى سويسرا. ولد جان فيليب آرتور دوبفيت فى 31 يوليو عالم 1901 فى هافر بفرنسا وقضى بها طفولته وفى عام 1918 انتقل دوبفيت إلى باريس وبدأ دراسة الرسم فى أكاديمية جوليان للفنون الجميلة لكنه بعد ستة أشهر ولسبب ما مثله مثل دالى وبيكاسو وغيرهما من الفنانين الذين تمردوا على الأطر التعليمية للفن بعد ستة أشهر هجر دوبفيت الأكاديمية ليدرس الفن بشكل مستقل لكن دوبفيت الشاب الناضج والفنان المبتدئ بدأت تنتابه حالات من الرفض الشديد لكل هذه النظريات الفنية بل ووصل به الحال إلى ان شك فى قيمة الفن ككل ومن ثم توقف عن ممارسة ودراسة الفن عام 1924 وبدأ فى مزاولة عمل والده حيث كان يملك متجرا كبيرا لبيع النبيذ لكنه فى عام 1930 عاد مرة أخرى لممارسة الفن بضغط من أنا ماريا صديقته واقتربت أعماله فى هذه الفترة بشكل واضح من المدرسة السريالية لكنه أيضا توقف لمدة عامين ثم خرج بمعرضه الأول عام 1944 والذى ظهر فيه تأثير السرياليين عليه بشكل واضح لكن هذا التأثير سرعان ما زال وأصبح دوبفيت يميل أكثر للمدرسة الميتافيزيقية. لكن وجهة نظر دوبفيت الفنية تغيرت تماما بعد قراءته لكتاب المفكر العظيم والفنان هانز برينزورن والذى يسمى «إبداع المصابين ذهنيا» من ثم بدأ دوبفيت فى التفكير بمذهب فنى جديد انبثاقا من هذا المنطلق فقام بنحت مصطلح شديد الأهمية فى الفن وهو Art Brut والذى يعنى الفن الوحشى وتميزا له عن ما يعرف بالمدرسة الوحشية يطلق عليه البعض Outsider Art أى الفن الدخيل ويعتبر دوبفيت هذا النوع من الفن ذى منحى إبداعى شديد التميز وخطير فى نفس الوقت لأنه نموذج فنى لا يحفل بالقيم الجمالية المتعارف عليها وبالتالى يعبر عن نفسه بكل وضوح وعفوية من هنا بدأ دوبفيت فى جمع ودراسة الأعمال الفنية غير المتزنين عقليا والمصابين بارتجاع فى مستوى الذكاء والأطفال بالإضافة لأعمال بعض الفنانين الذين تميزوا بالجموح العقلى مثل أودلف فولفلى وهذه المجموعة التى جمعها كانت نواة المتحف الشهير الذى يدين له بالفضل فى إنشائه وهو متحف الأرت بروت فى لوزان بسويسرا. إذن تحولت وجهة نظر دوبفيت الفنية لمدرسة جديدة نستطيع أن نقول أن قوامها البساطة والعفوية من ثم أثر ذلك فى كل أعماله فنحن نجد أن أعمال دوبفيت التى تم إنتاجها بعد إيجاده لفكرة الآرت بروت تتميز ببساطة الفكرة وعمقها فى نفس الوقت فهو يقترب من بساطة الأطفال فى التصوير حيث يذكرنا هذا بالفنان العربى الكبير صلاح بيصار حيث نكتشف فيه بعض وشائج الآرت بروت ومنهج البساطة الذى أسسه دوبفيت. ومن ينظر إلى أعمال دوبفيت يجد فيها البساطة كما قلنا بحيث نجده يعطى مادة أولية من الفن وكأنه طفل قد أطلق لنفسه العنان فى فصل من فصول الرسم وفى بعض الأحيان نرى فى أعمال جان دوبفيت الرؤى السحرية للإنسان الأول والذى مازالت أعماله تسكن بطن الكهوف حيث استخدم الفن كتميمية سحرية لمحاربة أعدائه أو لتسهيل مهام حياته اليومية مثل الصيد حيث يظهر هذا جليا عند دوبفيت فى أعمال بعينها مثل لوحته الشهير «البقرة» و«بورتريه للأب» وفى مرحلة لاحقه من حياة دوبفيت الفنية اهتم دوبفيت بالتكوين أكثر من التشكيل حيث جذبته التكوينات الفنية المجردة المتباينة الأحجام وبدأ فى إنتاج مجموعة ضخمة منها والتى أصبحت فيما بعد تزين عدة ميادين فى سويسرا وباريس كما احتفظت بها المتاحف كمرحلة من مراحل الفن التشكيلى الشديدة التميز مثل متحف الفن الحديث فى الدنمارك. وربما هناك قصة غريبة تثبت لنا أن الفنان دائما ما يجد فى أحزانه ما يؤجج إبداعاته حيث يقول لوران بريفير أن دوبفيت كان قد تعرف إلى فتاة فى باريس تدعى هلينا ونشأت بينهما علاقة حب قوية لكن هلينا التى كانت تمارس الفن التشكيلى أيضا كانت تذهب للطبيب النفسى لمرورها أحيانا بمراحل من الاكتئاب الشديدة ثم بعد ذلك تطورت مراحل الاكتئاب فأصبحت تمر بنوبات هياج شديدة كل هذا زاد دوبفيت حبا فيها حيث كان يحاول أن يهدئ من ثائرتها فيعطيها قلما ويطلب منها أن ترسم وكان يقول لها ماذا يريدها أن ترسم بالتحديد فيقول لها ارسمى حديقة أو الموت وهكذا وذات مرة وفى نوبة عنيفة انتابتها قال لها.