الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
عامان على رحيل «إيهاب حسن» أيقونة ما بعد الحداثة

عامان على رحيل «إيهاب حسن» أيقونة ما بعد الحداثة






فى العاشر من سبتمبر الماضى مر عامان على رحيل البروفيسير إيهاب حسن  هذا العالم والمفكر والذى نكست من أجل رحيله أعلام أشهر وأقدم عشر جامعات فى العالم ونعته معظم الهيئات الأكاديمية والثقافية فى العالم
يعتبر إيهاب حسن عالما خلّاقاً وخلافياً فى علم النقد بل وفى ما يعرف بتأويل النص الأدبى واكتشاف أدق ماهياته وهى مرحلة لاحقة على علم النص ذاته ولم يخضها غير القلائل من عباقرة النقد على رأسهم إيهاب حسن الذى قدم بإنتاجه طفرة نوعية وكمية واستاتيكية فى علم استجلاء النص الأدبى بشتى أنواعه..فحينما كانت كل الأوساط الأدبية تناقش ما آلت إلية الحداثة فى ستينيات القرن العشرين حيث كانت الحداثة آخذة فى التحلل منذ أكثر من عشرين عاماً وهذا قد يصدم القارئ فالحداثة بدأت فى القرن التاسع عشر وليست وليدة القرن العشرين ، وهكذا حينما كانت الأوساط الفكرية والأكاديمية تحاول تفسير هذا التحلل وما نتج عنه من كائن جديد يلبس عباءة الحداثة لكنه تعداها، فى هذه اللحظة نجح إيهاب حسن فى تنظير هذه الحالة من تحلل الحداثة وخرج على العالم بمصطلح يعود إليه الفضل فى اختراعه ونحته فى اللغة وهو مصطلح postmodernism  أو ما بعد الحداثة والذى لاكته ألسنة جيلين على الأقل دون أن يعرف غير القليل منهم أن هذا المصطلح هو من اختراع إيهاب حسن بل والعديد من المصطلحات الأخرى التى عبرت عن مدارس بعينها كان إيهاب حسن هو حجر التأسيس فيها.
يعتبر إيهاب حسن من الذين آمنوا أن الحداثة ليست وليدة القرن العشرين كما قد يعتقد البعض بل هى أبعد من ذلك بل هى ضاربة بجذورها فى صميم القرن الـ19 ولعله يفند ذلك بكل وضوح فى درة أعماله كتابة العظيم - تقطيع أوصال أورفيوس - والذى استخدم فيه الرمز والحركة الديناميكية فى السرد النقدى بداية من اختياره للاسم الذى عبر عن ظلال تأويلية لمحتوى الكتاب فأورفيوس كما تعرفه الأساطير الإغريقية هو الشاعر الغنائى الأسطورى والذى يجسد العصور السحيقة وعبقرية وسطوة الشعر الغنائى فى هذا الحقبة والذى بعد أن ماتت حبيبته يوريديكى وفشل فى إعادتها من عالم الموتى بعد رحلة عجيبة فى الجحيم قرر بعدها أورفيوس أن يمتنع عن الغناء فهاجمته النساء ورموه بالحجارة وقتلوه وقطعوا رأسه وأوصاله.. وهنا يعتبر إيهاب حسن أورفيوس هو رمز النص الأدبى سواء شعرا أو نثرا وأوصاله المقطعة هى تلك التحولات التى تطرأ على بدن النص لتخرجه من عالم النص كتكوين وإطار لعالم اللانص أو التفكيك المتعمد وهذا هو خط السير الذى ينتهجه إيهاب حسن فى الكتاب فهو يعتبر أن الماركيز دى ساد هذا الفرنسى المهووس بتعذيب ضحاياه وتعذيب نفسه هو اللبنة الأولى للحداثة التى تجلت ببهاء بعده حيث مارس دى ساد التعذيب على النص الأدبى ومؤلفاته التى كتبها فى السجن الذى قضى فيه معظم حياته، ويتوافق إيهاب حسن مع سيمون دى بوفوار فى أن الماركيز دى ساد هو أول أديب طليعى للرواية الرومانسية والقوطية وملهم داروين وفرويد ونيتشه وباكونين بل هو ملهم النازية حتى أن كافكا يعتبره (الراعى الرسمى للعصر الحديث)، ثم يعود إيهاب حسن فى تقطيع أوصال أورفيوس ويعبر فوق رامبو ولوترايمون حيث قتل اللغة بطريقة شعائرية على حد تعبيره ومن الطليعيين إلى مدرسة الميتافيزيقا والدادية والسريالية ويفرد مساحة لأدباء مثل فاشيه وكريفيل وآرتو ثم يقوم بتحليل الفريد جارى والذى ينكر الفن و يعتبر الكتابة – زلة لسان – ثم يرتد بعده للقرن التاسع عشر مرة أخرى ليذكر جيوم أبوللونيير والذى كان الأب الشرعى للجماعات الطليعية مثل الدادية والسريالية ويقف طويلا عن أندريه بيرتون وبول إيلوار بصفتهم المؤسس والناطق الرسمى للسريالية والتى تعتبر من وجهة نظرة ثورة الفكرة والنص فى القرن العشرين وصورة الصورة أيضا فالكتاب السرياليون يكتبون بالصورة والرسامون السرياليون يرسمون بالكلمة.. المادة مختلفة لكن حالة الخلق واحدة.
كان على إيهاب حسن أن يبدأ من الأصل حتى يصل لانعكاس الصورة فى المرآة فهو يبدأ من أوروبا حتى ينفذ لعالم النص الأمريكى ورواد الطليعية فيه ولعل من الغريب أن يضم إيهاب حسن الكاتب الأمريكى إرنست همنجواى لزمرة الحداثيين فى النص الروائى جنبا إلى جنب مع كافكا وبيكيت ويرى مثل كثير من النقاد أن هيمنجواى قد أضاف البعد الرابع والخامس للرواية وهو الموت والحاضر الصوفي.
ولعلنا لن نسهب فى عرض جزء من أحد أعماله بل درة أعماله تقطيع أوصال أورفيوس والذى يصفه البعض بإنجيل النقد الحديث يكفى أن نعرف انه تم تدريسه فى عشرات الجامعات وترجم لـ27 لغة (ليس من بينهم العربية) وطبع أكثر من 44 طبعة على مستوى العالم.
يعتبر هذا العمل الرائد  كشاف لما سوف يؤول إلية فكر إيهاب حسن فيما بعد فهو يكرس لبداية مرحلة جديدة للنقد عند إيهاب حسن وهى مرحلة ما بعد النقد أو Para criticisms أو ما فوق النقد وربما نستطيع أن نسميه (اللانقد) أيضا لأنها مرحلة أكثر حداثة من النقد الحديث وتفكيك النقد كما يصفها إيهاب حسن نفسه فى عمل بنفس الاسم حيث يقول (ما هى بالتحديد الأكاذيب الكامنة وراء النقد؟ المشاركة الأيروتيكية؟ الجهد الأدبى للإبداع الذاتي؟) وهذا بالتحديد ما يبين مدى ذاتية النقد، من هنا كان الباراكريتسيزم أو ما فوق النقد هو الاعتراف بذاتية النقد ومن هنا شجع إيهاب حسن على الكتابة بين حدى التحليل والنقد والرؤيا الذاتية بل والخيالية أو الهلاسية المتخيلة فى النص.
وليس إيهاب حسن معنى بفكرة طليعية النقد وإسقاطه فقط بل أيضا معنى بإبداع نص بين العديد من الوشائج ليس من بينها المُثل لكنها تعتمد على تيار الذات بشكل أساسى وخصوصاً السيرة الذاتية للكاتب والذى ربما يدمج جزءًا منها بشكل لا إرادى فى عمله الأدبى كما يرى ذلك عند أرثر ميلر وهذا يجعلنا نؤكد أن إيهاب حسن كان يمثل فى كتابه (الخروج من مصر) وهو شبه بايوجرافى يعتمد على التخيلات الذاتية والوقائع المعالجة ويتفق مع ميللر فى أنه أى كتابة السيرة الذاتية هى علاج للكاتب والمبدع قبل أى شيء.
ولد إيهاب حسن فى مصر عام 1925 ودرس فى جامعة القاهرة  الهندسة الكهربائية ثم سافر إلى أمريكا عام 1946 على متن المركب التجارى إبراهام لينكولن والتحق بجامعة بنسيلفينا لدراسة الدكتوراه فى الهندسة وفى عام 1948 حصل على درجة الدكتوراه فى الهندسة الكهربائية وحصل على وظيفة محاضر فى معهد رانسيلير بوليتيكنيك ثم بدأ للتحضير للماجستير فى الأدب الانجليزى على الرغم أن الأدب يعتبر مغايرا تماما لتخصصه لكن على ما يبدو أن إيهاب حسن كان على تعلق شديد بالأدب لأنه تربى فى مناخ ثقافى خلّاق كانت مصر فى ثلاثينيات القرن العشرين منارة عالمية وعاصمة أولى للثقافة الفرانكفونية فى العالم وكان التنظير الفكرى والعلمى والتاريخى يدور على أشده فى القاهرة كما فى لندن وباريس وكانت أمريكا بعيدة تماما عن مرمانا الثقافى بل وكان الأدب الأمريكى برعم آخذ فى التفتح.
من هنا بدأ إيهاب حسن فى التحضير لدرجة الدكتوراه فى جامعة بنسيلفينيا وحصل عليها عام 1953 ثم التحق بجامعة ويسليان كأستاذ للأدب الانجليزى ثم فى عام 1966 انتخب محاضرا فى فولبرايت جامعة جيرنوبل فى فرنسا وهى درجة عالية فى الأستاذية ينالها على مستوى العالم أكاديميون قلائل وفى عام 1970 ألتحق بجامعة وسكنسن ملواكى كأستاذ باحث فى الأدب الإنجليزى المقارن ثم أخرج فى العام التالى أهم أعماله تقطيع أوصال أورفيوس وفى عام 1974 أعيد انتخابه محاضرا فى فولبرايت بجامعة نيس.
عمل أستاذا زائرا فى جامعات طوكيو، السويد، ألمانيا، فرنسا والنمسا ويقول عنه ليام كالنان الأستاذ الحالى لكرسى الأدب المقارن بجامعة وسكنسن ميلواكى والذى كان زميله وتلميذه فى نفس الوقت (كنت أتعجب دائما من هذا الثمانينى الذى كان يعيش بقلب طفل وروح شاب صغير ومدى هذه البهجة التى تنبعث من وجهه دائما).. إذن لقد أحتفظ الفكر بروح إيهاب حسن نضره تعيش طفولتها فى جسد رجل ثمانيني.
خلف لنا إيهاب حسن تراثا ضخما من المؤلفات 25 كتابا تعتبر من التراث العالمى للفكر النقدى والمقابلة الأدبية من بينهم تقطيع أوصال أورفيوس والبطل فى الرواية الأمريكية وما بعد الحداثة الخروج من مصر وهى سيرة ذاتية شذرية مسهبة استعار فيها بعض أساليب المهاجرين القدامى وأكثر من 300 مقال ومئات أخرى من أوراق العمل والمحاضرات وفور وفاته اعتبرت الحكومة الأمريكية أرشيفه الورقى ثروة ملك الحكومة الأمريكية.