الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
بيير لوتى أيقونة أدب الاستشراق

بيير لوتى أيقونة أدب الاستشراق






(لم أدرك يوما أن هذه العيون التى فارقتها فى الأستانة هى التى سوف تطاردنى دوما فى مقاهى الشبك فى دمشق وبين مقابر الأولياء فى القاهرة وداخل معابد آمون فى جزيرة فيله.. أى جدوى من أن تفقد تمائمك السحرية ثم تسيح للبحث عنها فى أماكن أخرى.. أزياده.. يا حبى البعيد.. لماذا لم أدرك أننى كنت أموت حبا حتى فارقت عوالمك الحبيبة.. منذ إذ أنا والموت صنوان).. هكذا كتب الفرنسى بيير لوتى أيقونة  أدب الاستشراق فى أحدى خطاباته يصف لصديق فى القاهرة حالة بعد ان ضاعت منه حبيبته التركية أزياده والتى كتب على اسمها روايته الخالدة – أزياده – وقبل أن نخوض فى أسرار «لوتي» العميقة والتى لها رائحة بخور الشرق الأخاذة وتعاويذ السحر القديمة، قبل أن نتوه فى هذه العوالم علينا أن نطرح قضية بسيطة حتى يتثنى للقارئ أن يعرف ماذا قصدنا بأيقونة أدب الاستشراق وعلينا هنا أن نفرق بين مصطلحين شديدى التباين من الناحية التشريحية والوظيفية فهناك الاستشراق والذى يعرفه الجميع على انه هذه العملية التى يسعى فيها كتاب الغرب المتخصصين فى الشؤون والحضارة الشرقية بتفنيد وتنظير وأحيانا تفكيك الحضارة الشرقية سواء أكان هذا بغرض النقد الهدام أو بغرض الاستفادة من الجذور الشرقية للفكر الأوربي، أما الاصطلاح الآخر فهو مغاير للأول على الرغم من أن الاثنين يتشابهان لفظا وظاهراً، وهو أدب الاستشراق الأدبى والذى قام على أفتتان كوكبة ليست قليلة من كتاب الغرب بعوالم الشرق وروحة وجوه الغامض والذى كان فى مجمله يغلفه الخيال والسر والكهنوت، ولعلنا لا نخطئ القول إذا قلنا أن الفرنسيين كانوا هم الأوفر حظا فى الافتتان بل والذوبان فى عوالم الشرق الخلابة  وهم الذين أخذوا بيد الأدباء الغربيين نحو هذا العالم منذ أن ترجمت العديد من الأعمال الشرقية للغة اللاتينية فى العصور الوسطى وحتى عبور البرزخ الخلّاق فى تاريخ الغرب وهو عصر النهضة وكان العمدة فى هذه الأعمال وهو نبراس الحكى العالمى والشرقى معاً  كتاب ألف ليلة وليلة والذى هامت به أوروبا خاصة والغرب عامة حتى أنها اتجهت لمحاكاته والاقتباس منه وإعادة استنساخ حكاياته فخرج لنا «الدوكاميرون» والذى يعتبر هو ألف ليلة وليلة الايطالى على يد جوفانى بوكاتشيو ثم خرجت لنا كتب متفرقة أمثال حكايات أساقفة كانتربيرى والتى جلها كتب الحكمة الشرقية.
من هنا بدأ العقل الغربى تقوده الروح  بفضول نحو عوالم الشرق والحق يقال أن أدب الاستشراق على إغراقه فى النموذج المسبق والمعد سلفا للشرق بتأثير ألف ليلة وليلة وغيرها إلا أنه كان أكثر إنصافا وإمتاعا من الاستشراق الذى حمل على عاتقة التشريح والتفنيد وأدعى الحيادية والفطنة على الرغم من أنه لا يقل عن أدب الاستشراق فى اعتماد النموذج المسبق ولكن الفرق بينه وبين أدب الاستشراق أن النموذج المسبق للحضارة الشرقية كان دائما يعيش فى الاستشراق فى اللاوعى ويقوده بشكل أو بآخر لكن أدب الاستشراق كان صريحا حيث أعلن من بدايته أنه أتى ليبحث عن هذا الشرق الخيالى ذو المذاق الحريف الذى قرأه فى ألف ليلة وليلة وعاش معه قدسية الرحلة فى معراج نامة وأعلن انه أحب الشرق فى الخلط بين الواقع والخيالى وذاب فى عوالمه وتقبل قسوته أحيانا كما تقبل واقعة الحالم خلف الكواليس.
إذن فإن بيير لوتى أيقونة أدب الاستشراق كان من هؤلاء الذين رحلوا إلى بدن الشرق بحثا عن تلك الأسرار والغموض الكامن فى هذا البدن المترامى الأطراف، وكما قلنا فأن هذا السعى وراء الشرق كان شديد الكثافة فى فرنسا فهذا الشاعر الكبير لامرتين الذى بات يمدح ويستلهم الشرق حتى أن ابنة شقيقته دخلت الإسلام ورحلت إلى مصر وقضت بها معظم حياتها حتى توفاها الله ودفنت فى رحاب القاهرة الفاطمية التى عشقت أوليائها ومساجدها، وهذه كوكبة من الفلاسفة الفرنسيين الذين حملوا لواء الإفصاح عن العرفان فى الفلسفة الإسلامية والحضارة الشرقية فكان على رأسهم رينيه جينون أو الشيخ عبد الواحد يحى صاحب أشهر نصوص فى تحليل فلسفة الدين الإسلامى بل والديانات الشرقية عامة، والقائمة طويلة ومتشعبة ولا تنتهي.
لكن بيير لوتى (وأسمه الحقيقى جوليان فيو) كان من الأدباء الذين أستغرقه الشرق حتى ان معظم أعماله أن لم تكن كلها كانت ذات موضوعات وأجواء شرقية، ولعلة كان خير مثال للمستشرق بالمعنى الأعم قلبا وقالبا حتى أنه أصبح بدون مبالغة أو زخرفات لغوية أيقونة المستشرق الذى ساهم فى تصدير الافتتان بالشرق فأصبح حتى يومنا هذا رمزا من الرموز السحرية التى تستدعى الشرق وسحره، وهو وبعد ما يقرب من قرن من رحيله عن دنيانا لازال قيمة يستخدمه البعض للتسويق لليالى الشرق الساحرة فهناك فى تركيا فقط رتل من الفنادق والأماكن السياحية والمطاعم والمشارب والمقاهى التى يطلق عليها أسمه وفى مدن شرقية عديدة بل وفى باريس نفسها نجد ان محال كثيرة استخدمت صورته كمعادل بصرى لرجال الشرق مثل مطاعم زارما بالقرب من مونتمارتر وغيرها كثير.
والناظر إلى حال لوتى نفسه يجد انه متسق مع ذاته فهو ليس مستشرقا فانتازيا فى الشكل فقط لكنه اتخذ من الشرق أسلوب حياة وربما تتضح الفكرة أكثر إذا دلفنا لبيته الذى قضى فيه جل حياته فى جزيرة روشفور الشهيرة عرفنا ماذا تعنيه كلمة رجل يعيش على بدن الشرق حتى فى عمق الغرب، فلقد كان بيت بيير لوتى يتكون من عدة قاعات بينهم القاعات الشرقية وهذه القاعة التى كان يقضى فيها معظم يومه يكتب ويطالع ويستريح وكانت تحتوى على مسجد بكامل مشتملاته من منبر ومحراب وقبلة ومشكاوات وكان أمام مجلسة  توجد شاهدة قبر من القرن الخامس عشر لرجل من العصر المملوكى وكل مشتملات القاعة من كؤوس ومناضد صغيرة وأكواب كانت من خان الخليلى فى القاهرة وتجد أيضا تلك الأبسطة الفارسية الأصلية والتركية وفوق منضدة كبيرة كان هناك ثلاث نسخ خطية من القرآن الكريم تعود لعصور مختلفة ولوحة نحاسية كبيرة تزين الحائط مطعمة بالفضة عليها أسماء الله الحسنى وأسم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأسماء الصحابة الأخيار.. وكان يجلس لوتى فى معظم وقته مرتديا الطربوش التركى وممسكا بيده بمسبحة كهرمان كان قد أهداها له مجيد باشا الثرى المصري، وكان أحيانا يجلس مرتديا العقال العربى والرداء البدوى ويدخن النرجيلة وهنا نقف قليلا ونؤكد أن هذه ليست حالة فانتازية أو غرابة فى الأطوار كما قد يعتقد البعض بل هى اقتناع تام بأن من يكتب عن الشرق علية استلهام هذا الجو من خلال اعتناق الشرق كأسلوب حياه يقول لوتى فى أحدى رسائله المؤرخة عام 1894 ( لم أكن وقتها أعرف ان لمصر هذا السحر لكننى ما ان دخلت أسوار القاهرة ولاحت لى المآذن واستنشقت اليسير
من تلك العطور العربية الممزوجة بالصموغ والمر حتى وجدت نفسى لا أدرى من أين أنا.. أيمكن أن يكون جسدى جاء إلى هنا لمطاردة روحى التى عاشت هنا منذ قرون؟)
هذه الفقرة تبين كيف كان لوتى ذائبا بكل معنى الكلمة فى سحر الشرق وليس الشرق بمعناه البعد أسلامى فقط بل بعمقه وعراقته فهو يصف جزءا من رحلته لجزيرة ألفنتينى المصرى (فيله) والتى تحتفظ بآثار مجد فرعونى تالد وهى رحلة صاحبة فيه تركى من مصر أسمه عثمان حيث كتب عنها كتبا أسمه موت جزيرة ألفنتينى يقول لوتى ( هنا فى خلوة المعبد رأيت الفرعون يحمل القرابين ل آمون وتنحنى الكهنة حتى يتم الطقس ويهطل المطر فيفيض حابى ليعم الرخاء... هنا تقدست كل الأشياء لأن هنا مهد العالم).
وعلينا ان نلاحظ  كيف ختم لوتى فقرته بوصفه لمصر بأنها مهد العالم ومن ثم لم نبالغ حينما قلنا أنه كان متسق مع ذاته فهو لم يكن مستشرقا فانتازيا يعيش رعشات الشرق لفنه ثم يعلى من الغرب فوق هامة الشرق لا بل كان مدافعا صلبا وقويا عن الشرق وأهله الذى كان دائما يصفهم فى رسائله بـ(أصدقائى الشرقيين) ولما هاجمة الكاتب لويس برتران ذو النزعة الاستعمارية وقال له لماذا تدافع عن قوم لا تربطك بهم صله فى الدين أو العرق أو اللغة أجابه بكل ثقة (الحق لا دين له والحق يعلو على كل ثقافة والحق يتكلم بكل لسان) هكذا كان يرى بيير لوتى الحق فى تسخير قلمه ونبوغه لخدمة الشرق وله كتابات كثيرة أنتقد فيها الساسة الغربيين وتحينهم النيل من الأتراك وكانت تربطه بالسلطان عبد الحميد صداقة قوية حتى انه فى مرة أصدر لوتى كتابا جديدا ولم يرسل نسخة كعادته للسلطان عبد الحميد فأرسل إلية السلطان عبد الحميد قائلا (لقد عودتنى ان تهدى إلى كتاباتك بلا استثناء لكنك لم تفعل هذه المرة على أننى  اشتريت نسخه وقرأتها واستمتعت كثيرا ولك تهانى الخاصة)  
إلى هذا الحد كان بيير لوتى مقربا من الشرق حتى أن إمبراطور الإمبراطورية العثمانية العتيدة يرسل له خطابا كهذا.. ولحد أبعد كان تقدير لوتى للشرقيين والشرق فلما زادت الانتقادات له فى حبة للشرق كتب يقول (عندما يكون الإنسان حائزا شرف الانتماء للأمة العربية أو الفارسية أو الهندية بعبارة أخرى الأقوام الذين سبقونا ببضعة أجيال فى مضمار الرقى فأنه من العار فى نظرى أن يحاول الإنسان تقليد الغربيين).
ولد بيير لوتى فى 14 يناير 1850 فى ريشفور الفرنسية لأب وأم ينتميان للمذهب البروتوستانتى والذى عانى أتباعه كثيرا فى دول أغلبيتها من الكاثوليك فى هذه الفترة وحاول والده ان يدفعه ليكون قسيسا ومبشرا لكن دفعة له أتى بنتيجة عكسية حيث نفر لوتى من الحياة الدينية وكما انه لم يكن نابها فى دراسته بل كان يحب الأسفار ألتحق بالمعهد البحرية ثم بالبحرية الفرنسية وكنتيجة منطقية لعملة كبحار جاب أرجاء الشرق ووقع فى عشق أمراه تركية فى استانبول عام 1876 ولم تستمر علاقة الحب أكثر من أربعة أشهر حيث أضطر للرحيل وبقت حبيبته أزيادة هى تلك الذكرى الحبيبة التى عاش عليها باقى حياته بعد أن أرهقه الفراق ولم ينساها قط فكتب باسمها أهم أعماله – أزياده – حتى انه قبل موته بأقل من عام كان يضع صورتها بجانب مخدعه فسألته أحد الزائرات عن أسمها فسكت فبادرة خادمة (أنسيت أسمها يا قبطان) فرد لوتى بنبرة أسى : هذه آخر الأسماء التى سأنساها عندما أفقد الذاكرة.
كتب بيير لوتى مجموعة كبيرة من الأعمال الروائية والكتب والتى تتبدى لنا من أسمائها شرقية الهوى والمشارب ومن بينها ازياده – مراكش – اورشاليم – الجليل – فتاة السماء – الصحراء – مدام كريزانتيم والتى تحولت إلى أوبرا شهيرة لحنها أندريه ميساجيه الموسيقى الشهير.
توفى بيير لوتى فى يونيو 1923 وترك لنا مثالا يضرب فى أديب أستشراقى عاش قلبا وقالبا بين عوالم الشرق الخلابة والسرية والخيالية فى واقعها أيضا.