الخميس 8 أغسطس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لايوس تيهانى.. المجرى الذى هذب المدارس الطليعية

لايوس تيهانى.. المجرى الذى هذب المدارس الطليعية






لا نستطيع وصف المدرسين بأنهم عديمو الموهبة أو متحجرون فأحيانًا يأتى الانتماء لمدرسة ما نتيجة للاقتناع الكامل والإيمان بمبادئ هذه المدرسة أو تلك، على أى حال فإن فنان اليوم هو أكثر الفنانين فى عصره وربما فى تاريخ الفن الحديث الذين اتجهوا إلى اللا مدرسية من خلال ممارسة مبادئ عدة مدارس فى ذات الوقت مع وضع لمسات تطويرية، وهو معجزة الفن التشكيلى المجرى الفنان لايوس تيهانى والذى وصفه الكاتب الأمريكى هنرى ميللر بأنه معجزة تسير على قدمين فى شوارع باريس وكما وصفه أيضًا الموسيقى الأمريكى جورج أنتيل بأنه تذكار من تذكارات الفن والحياة والانتصار على العجز، والحقيقة أن كلمة «أنتيل» فى وصف لايوس تيهانى شديدة التعبير عن حالة؛ فمن يصدق أن أشهر فنانى المجر بل وربما أعظمهم فى النصف الأول من القرن العشرين كان أبكم أصم!!، من يصدق أن رجلًا أصيب بالخرس والصمم فى التاسعة من عمره يصبح أهم عضو فى الحركة التشكيلية الأوروبية فى النصف الأول من القرن العشرين؟، الحقيقة أن لايوس تيهانى هو أحد علامات الاستفهام الكبيرة فى الفن التشكيلى الأوربى بل ولا نستطيع أن نستوعب أن فنانًا كان شعلة من الإبداع والنشاط مثل تيهانى لا يشغل حيزًا من تاريخ الفن يتجاوز واحد بالمائة مما يشغله فنان متواضع الموهبة مثل بيكاسو.. حقيقة لقد كان تيهانى يفوق فنانين كثيرين مثل بيكاسو موهبة ونشاطًا لكنه لم يجد الحيز الإعلامى والنقدى المناسب بنفس القوة التى وجدها بيكاسو ودالى وغيرهما فأصبحوا أساطير اخترعتها البروباجندا المدرسية فى القرن العشرين، على أى حال فإن «لايوس» بداية من الألفية الثانية لاقى رواجًا كبيرًا حتى أنه فى عام 2004 بيعت لوحته الشهيرة رجل واقف بـ3 ملايين يورو لصالح دار شيللون للفنون وكانت هذه سابقة كبيرة أدت إليها مجموعة الدراسات النقدية والأنشطة التى أبرزت إبداع «لايوس».
يعتبر «لايوس» أحد أهم فنانى المجر وأوروبا عامة فى القرن العشرين ونستطيع أن نصفه بأنه فنان باريسى بكل معنى الكلمة مع أنه نشأ وتعلم فى المجر فى بودابست وكولوني، ويصفه الكثير من النقاد بأنه من فنانى الانطباعية الحديثة Neoimpressionists لكننا أيضا يجب أن نفرق بين الانطباعية الجديدة وما بعد الانطباعية، فكل منهما يعتبر حركة قد تكون مستقلة إلى حد كبير مع أن الكثير من النقاد يحلو له دمج الحركتين لكنهم فى الحقيقة منفصلتان إلى حد كبير، والدليل على ذلك أن فنانين كثيرين كانوا قد بدوا انطباعيين ثم تحولوا للانطباعية الجديدة لكنهم لم يتجاوزوها لمرحلة ما بعد الانطباعية بصفتها مرحلة أكثر حداثة ورحابة وحرية وهى التى أوصلت الكثيرين لباحات الحداثة الهادفة بكل مدارسها، والمقولة التى تقول: إن معظم فنانى القرن العشرين هم أبناء الانطباعية هى مقولة حقيقية تمامًا فالكل بدأ بالانتماء للانطباعية لكن الجميع تطور وساير كل جديد لكنه ظل انطباعيًا بنسبة ولو ضئيلة، وهذا بالتحديد ينطبق على «لايوس» فنحن نجد أن له أعمالًا انطباعية كلاسيكية مثل لوحته التى صور فيها غرفة نومه وهذا بالطبع تحت تأثير شيخ الانطباعيين فان جوخ وحيث أصبح موضوع تصوير الغرفة فى لوحة هو عرف انطباعى سائد بين كل الانطباعيين، والمقصود هنا أن «لايوس» بدأ انطباعيًا كلاسيكيًا ثم أصبح يبحث عن الجديد فدخل غمار الانطباعية الجديدة وكانت الانطباعية الجديدة فى بودابست وهو شاب تجد لها طريقًا فى جماعة عرفت باسم (نيو) NEO وهى اختصار للانطباعية الجديدة وحيث انضم لها لايوس فى سن صغير ومن هنا كانت بداياته مع خلق حراك فني شامل فى المجر ثم بعد ذلك تعدى هذا الحراك المجر لأوروبا كلها.
انضم «لايوس» لجماعة الثمانية الشهيرة التى كان هو أحد أبرز أعضائها مع فنانين كبار لهم ثقلهم مثل كيمستوك وتسوبيل وكانت هذه الجماعة تضم الانطباعيين الجدد الذين تأثروا بحركة الأفانجريد وهى حركة نشأت فى أوروبا فى أوائل القرن العشرين نادت بتخليص الفن من مبادئه التقليدية لكنها كانت تتجه سريعًا إلى العبث واللامعقول فتحللت مثلها مثل الدادية ومثل كل الحركات التى فضلت التقليعة والتمرد على هدف تطوير الفن ذاته، لكن جماعة الثمانية لم تكن كذلك لأن هدفها كان خلق جو من الحداثة فى المجر يستوعب العديد من المدارس ومنها التجريبية التى كانت هى أصدق وصف للايوس وجماعته فلقد قادت تجريبية لايوس للعديد من الأعمال الكبيرة وفى محاولة منا لاختزال مذهب وحركة لايوس تيهانى فى الفن التشكيلى نستطيع أن نقول إن مذهب لايوس كان انطباعى الفكر حداثى النزعة وحشى الألوان وطليعى الفكرة، وأيضًا علينا أن نؤكد أن العديد من أعمال لايوس تأثر فيها بالمدرسة الوحشية أيما تأثر فمعظم تقنياته اللونية تقنيات المدرسة الوحشية بل أن عمله الشهير بورتريه مسيو جاك يعتبر وحشيًا صرفًا حتى أننا لو تجاهلنا الإمضاء الواضح لتيهانى لكنا أمام عمل لهنرى ماتيس، والبعض يرجع ميوله لاستخدام ألوان صارخة أحيانًا مستعارة من المدرسة الوحشة لكونه أصم وأبكم وحيث أثبت علم النفس أن الصم يميلون بشكل كبير للألوان الصارخة والتى تمثل لديهم حالة صوتية بشكل ما.
لم يكن «لايوس» بعيدًا عن حركات عصره الضاربة فى الخصوصية مثل التكعيبية لكنه كانت لديه ملكة غريبة لم تتوفر للكثير من الفنانين التشكيليين وهى أنه يستطيع أن يقود المدرسة ولا يتركها تقوده بمعنى أنه يستطيع تهذيب العمليات التشكيلية التى توصف أحيانًا بالتطرف لتصبح مقبولة للمتلقى بل وتناسب قاعدة العامة بشكل كبير ويبدو هذا فى تأثر بعض أعماله بالتكعيبية ولحسن الحظ فإن لايوس يهذب التكعيب ويقوده داخل لوحاته لمضمون وتقنية فنية عالية الجودة فلم نعد نرى هذا الالتباس والتلغيز الذى يصاحب الأعمال المنتمية للتكعيبية، أيضا لقد غزا لايوس مجال مدرسة التجريد وله أعمال تجريدية أكثر من معبرة، لكنه يظل كما قلنا انطباعية الهوى داخل أطر متعددة.
ولد الفنان الكبير لايوس تيهانى فى أكتوبر 1885 لأسرة مجرية يهودية فى بودابيست وكان والده يملك مقهى كبيرًا فى بودابست وفى سن التاسعة أصيب لايوس بالالتهاب السحائى وفقد على أثره حاستى السمع والكلام وحيث يشكل لايوس حالة مضيئة للفن التشكيلى فى المجر وفى أوروبا عامة.
توفى لايوس تيهانى عام 1938 وهو لم يبلغ بعده عام الـ53 تاركًا لنا تراثًا ضخمة من الأعمال الفنية الشاهدة على حقبة رائعة من تاريخ الفن التشكيلى فى أوروبا.