الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البرخت درر.. «دافنشى» ألمانيا

البرخت درر.. «دافنشى» ألمانيا






لو أن رجلًا خرج من عمق روما ورسم مجموعة من الخطوط الخالية من أى معنى أو أى إيحاء وادعى بعد ذلك أنه فنان ملهم لصدقته الجماهير بالرغم من خواء عمله من المعنى أو أى فحوى فنية لكن قد يقول البعض أن هذا الرجل المدعى مليء بالفن أو حتى فنان متوسط الموهبة لمجرد أنه أتى من عمق مدينة الفن المقدسة هذا بالطبع فى عصرنا أما فيما مضى فكان للفن مقاييس أخرى وحدود يقاس عليها قرب الفنان من المثل الأعلى أو حتى قربه من التعريف بفكرة فنية معينة لكن أيضًا كان لبيئة الفنان دور مهم فى تدرجه الفنى من الناحية الجماهيرية حيث كانت القيادة دائمًا لإيطاليا سواء فى عصر النهضة أو العصور الوسطى ثم فيما تلى عصر النهضة أصبحت فرنسا هى النبراس ثم بعد ذلك تفرق دم الفن بين عواصم أوروبا ولذلك هناك من الفنانين من جارت عليه أقلام النقد ونسيته عيون النقاد لمجرد أنه خارج عن حاضرة الفن فى عصره أو لمجرد أنه من عاصمة أخرى فبالرغم من أن معظم فنانى أوروبا فى عصور كثيرة درسوا وتتلمذوا على أيد إيطالية إلا أنهم غبنتهم يد النقاد لمجرد أنهم ليسوا إيطاليين ومن وجهة نظر أخرى أيضًا كان لبيئاتهم دور كبير فى صبغ أعمالهم بألوان محلية، لم يستطيعوا معها أن يتخذوا لأنفسهم دورًا متقدمًا بين فنانى إيطاليا .
تغللت الأرواح الألمانية الكئيبة والشديدة الحدة إلى إنتاجه الإبداعى فجعلت منه نموذجًا لما يطلق عليه الكآبة الفنية حيث طبعت الجدية الألمانية والفكر الإصلاحى أعمال درر بطبيعة كئيبة كما تغلغلت روح الحركات الإصلاحية العقلانية إلى أعماله أيضًا حيث نستطيع أن نطلق عليه ( فنانًا بروتستانتيًا ) صرفًا حيث أثر الفكر البروتستانتى الوليد فى عقل وروح البرخت درر وإن لم يعلن ذلك صراحة لكنه بدا واضحًا بشكل لا يقبل الشك فى أعماله .
فلقد أقبل درر على الموضوعات الدينية بشكل كبير لكن من منظور فنى شديد الجدية حيث كانت معظم وجوه أعماله عابثة جادة مقطبة غارقة فى بحر من التعسف الحركى حتى أن ارنولدو مونتاجيو الناقد التشكيلى يقول ( حينما أطالع شخوص البرخت درر فى لوحاته يخيل إلى أنهم مصابون ببعض الأمراض العضوية مثل الانتفاخات أو التكلسات الجلدية كما يخيل إلى أنهم تهاجمهم الشيخوخة فى سن مبكرة جدًا باختصار فإن درر بالرغم من أنه فنان عبقرى موهوب إلا أنه سجن شخصيات لوحاته داخل سلك شائك من التحفظ والكآبة)
والعديد من النقاد والفنانين على حد سواء يتفقون فى الرأى مع مونتاجيو وربما نتفق نحن فى بعض الأجزاء معه لكننا أيضًا لنا تحفظ على نقد مونتاجيو له حيث إنه فى الغالب الموضوعات التى اختارها درر هى التى وضعت شخوصه فى هذا الموضع الغريب من الكآبه والتحجر فلقد ابتعد درر بشكل شبه مقصود عن الموضوعات الدنيوية اللهم فيما عدا البورتريهات التى رسمها وبعض الأعمال الجرافيك التى رسمها خصيصًا لتكون صورًا لبعض كتب عصره الشهيرة والتى اشتهر بها كفنان من الطراز الأول وهكذا فإن الموضوعات التى اختارها درر هى التى قتلت التدفق والحيوية فى شخوصه لكن لو تخيلنا البرخت درر يرسم موضوعات دنيوية مثل دافنشى مثلًا أو مثل لوكا سينيوريللى فإننا سوف نرى فنًا مبهجًا ومسايرًا بقوة لمنظور الرينيسانس المميز ونستطيع أن نقول إن وجه الشبه بين دافنشى ودرر يكاد يكون كبيرًا ومذهلًا ويبدو ذلك واضحًا إذا ما قارنا بين الأعمال الجرافيك لدرر الكارتون الخاص به وبين ما يناظرها عند دافنشى لوجدنا أن درر بلا شك هو دافنشى الألمانى .
فى جميع رحلاته كان درر ينتبه لأصغر مادة واغربها، ليدونها فى دفتر رسوماته، يدرسها، يصورها فى ذهنه ثم يبدأ بانجاز رسمها او النحت.
إن دراساته الرائعة والمفصلة عن الأزهار البرية، أوراق الحشائش والأعشاب، وكثير من المواد التى كانت من قبل لا تقيم كمواضيع فنية تستحق الرسم والتصوير إلى أن جسد قيمتها درر فى أعماله المبدعة، واتخذت بحق كدليل لكثير من الباحثين والدراسين فى المجالات المختلفة.
تقدم درر فى إبداعه وأصبح من أشهر فنانى البورتريه الألمان فى عصره وبلغت مكانته فى أوج عظمتها عندما خصص الامبراطور ماكسميلان الأول راتبًا سنويًا له لجهوده المتميزة، من نحت، وتصميم قوس النصر، وأعمدة المباني... انتهى نشاط درر وإبداعه بإصابته بالحمى عام 1528.