النفى إلى الوطن (2)
المتأمل لرواية «النفى إلى الوطن» للكاتب الكبير محمد جبريل الصادرة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب سيجد كثيرا من الأشياء التى من الممكن أن يتحدث عنها كثيرا ؛ فمن الأشياء المهمة التى تتميز بها الرواية الشكل الذى كتبت به، فقد كتبت الرواية على ثلاثة مستويات ؛مستوى حكايات الجبرتى، مستوى حكايات السيد عمر مكرم، وأخيرا مستوى الراوى/الصوت وأصوات أخرى.
وسنجد أن كل مستوى من تلك المستويات الثلاثة داخل الإطار السردى للرواية يعبر عن وجهة نظر مختلفة عن الأخرى ، وقد تتطابق معها وقد تزيد الأمر وضوحا وتفسيرا فى بعض المواضع لموضوع ما، والجدير بالذكر أن القارئ أحيانا يجد نفسه أمام ثلاث روايات منفصلة مكتوبة بقلم واحد ولكنها فى النهاية تحمل رؤى متعددة لتفسير وتوضيح الأمر، ومن الممكن أن يتناول أى قارئ وجهة نظر من الثلاثة مستويات وسوف يخرج برؤيته التى يرتاح لها ولكنها بالطبع ستكون ناقصة بدون الرؤى الأخرى.
ومن المسائل التى تعبر عن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، حكاية عدم إقامة احتفالات المولد النبوى، فكتب الجبرتى فى تاريخه قائلا: «وفيه سأل سارى عسكر عن المولد النبوى ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ فاعتذر الشيخ البكرى بتعطيل الأمور ، وتوقف الأحوال،فلم يقبل وقال: لابد من ذلك وجاء المستوى الثانى وهو الصوت الراوى ليعبر قائلا : «حتى أعياد المصريين فى المناسبات الدينية،حرص بونابرت على حضوره فيها» ، وعبر الكاتب فى مستو آخر عن الموقف نفسه تحت عنوان «من بيان للقائد العام» فقال: «وذكرنا لكم أننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار».
و هكذا يسير أحوال السرد داخل الرواية من تنوع وتدفق ورؤى مختلفة وإن كانت تتناول موضوعا واحد ، ورغم وجود عدد من الشخصيات إلا أننا من الممكن أن نطلق على تلك المستويات أصوات السرد المختلفة داخل الرواية، وقد نعتبر الشخصيات ألسنة مختلفة تعبر عن تلك الأصوات.
ومن المسائل المهمة التى تناولتها الرواية فكرة النفى ، وهل يعتبر النفى إلى جزء من أجزاء الوطن فى مصر أو حتى فى الوطن العربى نفيا، أم أنه انتقال مؤقت من مكان إلى مكان آخر حتى إشعار آخر، والأمر هنا مرتبط بالسيد عمر مكرم الذى نفى إلى دمياط ويقال إلى طنطا والعريش وغزة، وهناك نفى جاء اختياريا من السيد عمر مكرم نفسه مثل العريش وعزة وطنطا وإجباريا مثل دمياط ، والجميع على أية حال أجزاء من الوطن، سواء مصر أم العرب، لذا كان الكاتب يتناول حالة النفى بأنها الإقامة وليس النفى بمفهومه حين يعبر عن تلك المسألة فى مستوى السرد الخاص بأوراق السيد عمر مكرم، وكان جبريل فى تصورى موفقا فى استخدام تلك اللفظة الحاسمة وهى «الإقامة» لحسم مشاعر عمر مكرم وتبيان رؤيته، وكان يؤكد أيضا على لسانه أن الأمر مختلف بالطبع عن النفى إلى أماكن أخرى، وقد حسم عمر مكرم الأمر نفسه حين قال ص 308 « النفى هو لبلاد غير معلومة الأحوال،تختلف فى دينها ولغتها وأنسابها وعاداتها وتقاليدها....، فالمدن التى تشكل امتدادا لعموم الديار المصرية ، تظل جزءا من الوطن ، لا يفصلها عنه حاكم ،و لا قوى من داخل البلاد أو خارجها».
وعرض جبريل لنفى السيد عمر مكرم مرتين، مرة بإرادته للعريش وغزة، ومرة أخرى على غير إرادته لدمياط وقيل لطنطا، وفى المرتين لم يعبر جبريل عن غصة كبيرة فى حلق السيد عمر مكرم، وقد عتب المعلم حجاج الخضرى على عمر مكرم وهو يمد يده بالمصافحة قائلا:
- الناس تحتاج إليك لقيادتها ضد الفرنسيين.
و السؤال الذى يراودنى بعد قراءة رواية النفى إلى الوطن، هل كان جبريل مع أن عمر مكرم - الذى بناء على ما قيل- لم يتعرض للنفى الحقيقى الذى يأكل من كل وطنى أم أنه يود أن يشير الى شىء آخر يريد أن يقوله؟ الأمر فى تصورى ليس بريئا خاصة مع كاتب كبير بحجم محمد جبريل، هل كان يقصد إدانة عمر مكرم الذى سلم البلد للتاجر الألبانى محمد على؟1 ربما نعم وربما لا، فالمعنى فى بطن الروائى الكبير محمد جبريل وفى عقل كل قارئ مجد!!.






