
د. طارق الغنام
الفكرة السامية
سألت نفسى ذات يوم وأنا جالس على ضفاف النيل أسيراً فى سحر مائه الرقراق.. ما قيمة الأفكار فى زمننا هذا ؟ هل نعطى للأفكار الإبداعية قيمتها التى تستحقها، أم أننا بتنا ننعم بدعة الأفكار التقليدية أو المقلدة أو المنقولة دون حاجة لأن نجهد عقولنا بأفكار إبداعية جديدة ؟ ووجدت أن الإجابة على هذا السؤال تقتضى أن نسلم بأن أية فكرة تحيا من خلال عنصرين أولهما هوصاحب الفكرة الذى أبدعها والثانى هو متلقى هذه الفكرة الذى يقدرها ويبرزها إلى حيز الضوء.. فإذا وقع خلل فى أحد عنصرى الإبداع والتلقى اختلت المعادلة.. وبات المجتمع عرضة للعديد من الأمراض التى تؤثر على تقدمه ورفاهيته.. ولقد تنبهت الدول المتقدمة إلى هذه المسألة فأخذت على عاتقها اتباع كل السبل التى تنهض بالعملية الإبداعية داخل مؤسساتها ومرافقها .. فابتدعت ما يطلق عليه «حاضنة الأفكار» التى أخذت فى الانتشار بمؤسسات الدول المتقدمة والدول الساعية إلى النمووكان الغرض من هذه الحاضنات تشجيع الإبداع الفكرى والابتكار ووضعه على طريق التطبيق بتأهيل المستويات الإدارية العليا على تقبل الأفكار الإبداعية ومن ثم تبنيها وطرحها للتطبيق ... ولقد سارت مصر مؤخراً نحو هذا الاتجاه، فوزارة التعليم العالى وأكاديمية البحث العلمى بدأتا فى تطبيق هذه الفكرة التى نأمل أن تتوسع لتشمل كافة مؤسسات الدولة.. فنهضة الأمم تبنى فى الأساس على فكرة، هذه الفكرة تأخذ طريقها للنور لتكون مصدراً للإلهام يهتدى به فى كافة المسارات، ففى بداية عصور النهضة الأوروبية انتشر ما يعرف بالمذهب العقلى إلى جانب المذهب التجريبى والنقدى والذى وضعه الفيلسوفان اليونانيّان سقراط وأرسطو، والذى تم إبرازه لاحقاً الفيلسوف الفرنسى «رينيه ديكارت» والفيلسوف الألمانى «ليبنتز» ولقد كان لهذا المذهب صدى واسعا وأثرا عظيما على المجتمع الأوروبى فى الوصول إلى المعرفة عن طريق التّفكير والاستدلال العقلى وإن كان له بعض السلبيات فيما يتعلق بالعقائد، إلا أنه استطاع أن يترك أثراً عميقاً على الاتجاهات الفكرية فى المجتمع الأوروبى، أثر فى دفعه نحو التقدم والرفاهية وساهم فى إحداث نقلة حضارية عميقة امتد أثرها إلى وقتنا المعاصر .. وعلى جانب آخر نجد أن إهمال الفكر أوعدم الاقتناع بآثاره الإيجابية على المجتمع يؤدى إلى تخلف الأمم عن ركب الحضارة، فعلى سبيل المثال أرجع العديد من المؤرخين أسباب ضعف الدولة العثمانية وتخلفها عن ركب الحضارة الأوروبية لإصابتها بانفصام لازمها منذ وقت مبكر حين اتسعت أملاكها، فبعد أن اتسمت الدولة العثمانية بنظام صارم فى إدارة شئونها وشكلية مفرطة فى تدوين وإثبات كل صغيرة وكبيرة فى الدولة سرعان ما باتت قوانينها التى كانت لها أثر فى استقرارها وقوتها - خاصة فى عهد السلطان سليمان القانونى الذى امتد حكمه زهاء 48 سنة - حبراً على ورق، فكانت البداية عدم اقتناع القائمين على تطبيق هذه القوانين بها وتغليب مصالحهم الخاصة عليها.. وكانت النهاية انتشار الفساد فى كل مفاصل وأركان الدولة، فالحقيقة الساطعة التى لا اختلاف عليها أن الأفكار الإيجابية الإبداعية تحيى الأمم وترفع من شأنها، وعلى النقيض من ذلك، فإن إهمالهما يؤدى إلى انهيار الأمم وزوالها.. إننا ونحن فى هذه المرحلة التى نبنى فيها وطننا نحتاج إلى فكرة جامعة معبرة مختصرة تتغلغل فى وجداننا وتؤثر على قناعتنا وتكون نبراساً نهتدى به، نعتنقها وترتقى بأخلاقنا، وسلوكنا، ومهاراتنا، تدفعنا للأمام والإبداع ؛ نمقت بها كل مظاهر القبح، والعنف والفساد، تخلق بداخلنا روح التسامح والمنافسة لأن نكون الأفضل فى كافة المجالات والعلوم، تحيى تراثنا، ونضيء بها تاريخنا، نستعين بها على بناء جدار لحماية عقولنا من كافة الأفكار المتطرفة والمسمومة والهدامة والساذجة، فكرة تدفعنا إلى التعمق والتحدى الذى ينبغى أن يكون قاسماً مشتركا.