الخميس 25 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
ضمير العالم إلا ربعه.. ومصير سفينة الإنسانية

ضمير العالم إلا ربعه.. ومصير سفينة الإنسانية

كانت زيارتى الأولى لمقر الأمم المتحدة بنيويورك، فى السادس والعشرين من سبتمبر 2018، تزامنًا مع انطلاق فعاليات جمعيتها العامة فى دورتها الـ73، لفت انتباهى الأعمال الفنية المستظلة بأشجار حديقتها زاهية الخضرة.



 

تأملتها فإذا بها ليست مجرد أعمال فنية تزين حديقتها، وجداريات المقر وقاعاته، فكل منها يحمل رسالة للإنسانية، لعلها لا ترتكب حماقات الأجيال السابقة فتدفع من دمائها وحضارتها مزيدا من الأثمان والآلام.

 

فى الحديقة تمثال مسدس معقودة ماسورته، وآخر لبطل من البرونز يحمل مطرقة يثنى بها سيفا ليحوله إلى محراث، ليتحول من سلاح لأداة للتعمير، وتنين عملاق تشكل من بقايا أسلحة ومحركات وأجزاء من طائرات ودبابات تحطمت فى الحربين العالميتين، وسفينة مكتظة بالبشر، راسية ينزل منها ركابها فى إشارة إلى بلوغ الإنسانية بر الأمان.

 

نشأت عصبة الأمم بموجب معاهدة فرساى 1919؛ فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، للحيلولة دون تكرار الحرب بويلاتها، بعد أن وقعت على ميثاقها 37 دولة فى مقدمتها أمريكا التى استضافت مقرها بنيويورك، قبل عقد الاجتماع الأول لجمعيّتها العامة بجنيف في نوفمبر 1920.

 

لكنها فشلت فى أداء مهمتها ولم تستطع حل المشكلات بين الدول الكبرى سلميًا، فاحتلت اليابان الصين، وإيطاليا أجزاء من الحبشة، وأحدث الاحتكاك العنيف بين دول المحور والحلفاء شرارة اشتعال نيران حرب عالمية ثانية أكثر شراسة استمرت من سبتمبر 1939، حتى سبتمبر 1945، كتبت شهادة وفاة نظام عالمى ومعه عصبة الأمم، التى دفنت قانونيًا فى 31 يوليو 1947، وإن ظلت لسنوات فى غرفة الإنعاش. 

تشكل النظام العالمى الجديد، ومعه الأمم المتحدة بمؤتمر سان فرانسسكو أبريل 1945، وبين الموقعين على ميثاق التأسيس 4 دول إفريقية من بينها دولة عربية واحدة هى مصر، ومعها من إفريقيا: إثيوبيا وجنوب السودان وليبيريا، بين إجمالى 50 دولة حول العالم مؤسسة للمنظمة التى استهدفت إحلال الأمن والسلم الدوليين، وإنهاء الصراعات بالطرق السلمية.

 

أمس الأول انطلقت أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، التى تضم فى عضويتها 193 دولة من قارات العالم، كل منها تقف على قدم المساواة قانونيًا، يعادل صوتها أقلها مساحة وسكانًا صوت العظمى فى الجمعية العامة، لكن تلك العدالة تختل وتتلاشى فى أجهزة الأمم المتحدة الفاعلة.

 

ففى مجلس الأمن سيطر حلفاء الحرب العالمية الثانية المنتصرون «أمريكا- الاتحاد السوفيتى روسيا الآن- الصين- بريطانيا- فرنسا»، على سلطة اتخاذ القرارات، فمنحوا أنفسهم عضوية دائمة، واشترطوا عدم جواز مرور قرار دون موافقتهم مجتمعين، فيحق لأحدهم منفردًا الاعتراض، واستخدام حق «الفيتو»، لتعطيل أى قرار وإن وافق عليه كل أعضاء المجلس الأربعة عشر الآخرين دائمين ومتغيرين.. منتهى العبث واللاديمقراطية.

 

كان الحلفاء على يقين أن مصالحهم ستجعلهم متصارعين، فأراد كل منهم أن يحول دون فرض قرارات تعارض مصالحه، وهو ما حدث فعليًا فبدأت الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتى الذى تفكك فى ديسمبر 1991، وامتدت لتشمل اليوم الصين وغيرها فى صراع الهيمنة.

 

ما أشبه الليلة بالبارحة، الأمم المتحدة تترنح على أنقاض نظام عالمى يحتضر، وأعتاب آخر جديد فى مرحلة المخاض، ينتظر الميلاد لترى الإنسانية ملامحه، بعد أن عجز مجلس الأمن عن احتواء الصراعات المسلحة، ليقف عاريًا كيوم ولدته أمه، بعد أن جرده الفيتو الأمريكى من آخر قطع ملابسه الداخلية.

 

وقف مجلس الأمن عاريًا أمام ضمير الإنسانية، عاجزًا عن وقف جرائم الصهيونية المحمية أمريكيًا، وما ترتكبه من إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطينى، فتنهار المصداقية، والقوانين والمواثيق والأعراف الدولية، ويدرك العالم أنها مجرد آليات توظفها القوى الاستعمارية لتطويع الضعفاء وتوظيف القيم الوهمية لخدمة مصالحها.

 

ضمير العالم إلا ربعه استيقظ معترفًا بحق الشعب الفلسطينى فى دولته المستقلة، وحقه فى الحياة، ووقف إطلاق النار وجرائم الإبادة، 159 دولة حتى الآن من إجمالى 193 أعضاء بالأمم المتحدة اعترفت بدولة فلسطين، حضرت الدولة الفلسطينية رغم محاولة الأمريكان تغييب قادتها عن اجتماعات الجمعية العمومية بعدم منحهم تأشيرات دخول أمريكا.

 

خرج نتنياهو يتوعد بالرد على تسونامى الاعترافات، بإجراءات رادعة فور عودته من أمريكا، وظل فى خطابه يردد أكاذيبه وأوهامه مستدعيًا معتقداته التوراتية، ويعرض خرائطه الكاشفة لمخطط التهجير وتصفية القضية الفلسطينية لاستثمار قطاع غزة فى ممر تنموى دولى تخطط له أمريكا فى مواجهة الحزام والطريق الصينى. 

 

وعلى مدار ساعة كاملة يوزع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب هجومه على القوى العالمية كافة، حتى الأمم المتحدة، التى وصفها بأنها بلا جدوى ولا فاعلية، حتى أقرانه الذين سبقوه فى رئاسة أمريكا لم يسلموا من هجماته، باستثناء الصهاينة وحدهم وقائدهم نتنياهو تبنى مزاعمهم وأعلن مواصلته دعمهم، متجاهلًا جرائم الإبادة التى يرتكبونها.

 

الخطاب «الترامبى» يفوح نرجسية، وانفصالا عن الواقع، ودعاية شخصية أكثر من كونه خطابا يمثل دولة عظمى، فردد ترامب على مسامع العالم مزاعم وأوهام نجاحه فى إيقاف 7 حروب فى سبعة أشهر، وأحقيته بجائزة نوبل، وعدم جدوى الأمم المتحدة إلا إذا لحقت ودولها برؤيته، وتدمير أوروبا لدولها باستمرارها فى اتفاقية المناخ، إنه يدعو لنظام عالمى بزعامة أمريكية ورؤية «ترامبية».

 

عدت بذاكرتى إلى الوراء سبع سنوات، تذكرت خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2018، حضرت يومها بالقاعة بالمكان المخصص للإعلام، تحدث السيد الرئيس بلسان وضمير العالم، مذكرًا أنه يتحدث باسم دول مجموعة الـ77 والصين، التى كانت مصر رئيسة دورتها حينها.

 

يومها قال الرئيس بوضوح «الأمم المتحدة فى حاجة لتعزيز دورها، كقاعدة أساسية لنظام دولى عادل وفاعل، وتلك القيم حكمت الرؤية المصرية تجاه الأمم المتحدة منذ تأسيسها وخلال سبعة عقود، انتخبت فيها مصر لعضوية مجلس الأمن الدولي».

 

وبلسان عربى مُبين أكد: «لا يمكن لأحد أن يلوم أى عربى يتساءل عن مصداقية الأمم المتحدة، وما تمثله من قيم، فى وقت تواجه فيه المنطقة مخاطر التفكك وانهيار الدولة الوطنية.. وتخاذل الأمم المتحدة، عن تمكين الشعب الفلسطينى من الحصول على حقوقه المشروعة للعيش بكرامة وسلام فى دولة مستقلة تعبر عن هويته وآماله».

 

وبلسان ضمير العالم أكد: «مصر تمثل الآن غالبية بلدان العالم، من خلال رئاستها الحالية لمجموعة الـ77 والصين، التى تضم غالبية سكان كوكب الأرض، أصحاب المصلحة فى تفعيل الأمم المتحدة، وهو ما يحملها مسئولية نقل أسئلة الشعوب بمصداقية، وفى مقدمتها أن الدول النامية لا يمكنها العيش فى منظومة دولية لا يحكمها القانون، بل الهيمنة والاستقطاب، من قوى عظمى».

 

قدمت مصر يومها، وواصلت جهودها فى مختلف فعاليات الأمم المتحدة وجمعيتها العامة، خريطة للسلام، إصلاح منظومة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، دعم الحفاظ على الدولة الوطنية، حل عادل للقضية الفلسطينية، وصولًا لمعركتها الحالية إخلاء دول الشرق الأوسط كافة من أسلحة الدمار الشامل، ووقف نزيف الدماء فى فلسطين وإحباط مخطط التهجير وتصفية القضية، بمنح الشعب الفلسطينى حقه المشروع فى دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو 1967.

 

مع تنامى الاعتراف الدولى بالدولة الفلسطينية المستقلة، بجهود مصر والسعودية والدول العربية والدعم الفرنسى، وقبل كل ذلك الصمود الأسطورى للشعب الفلسطينى على أرضه وتضحيات الأجيال المتعاقبة، وتحليل مضامين خطابات ترامب ونتنياهو والمستهدفات الصهيو- أمريكية، فإن الدعم الفلسطينى سيزداد والعزلة للكيان الصهيونى ستضيق عليه الخناق لدفعه لأحد خيارين: 

 

الأول: التراجع التكتيكى بقبول صفقة يطرحها الرئيس الأمريكى ترامب بوقف إطلاق نار مشروط بتفكيك حماس وسلطة جديدة للقطاع، كمرحلة مؤقتة لتجاوز العاصفة.

 

وهذا الاحتمال الأضعف والأبعد، لوجود مخطط أمريكى إسرائيلى يستهدف إخلاء القطاع لصالح مشروع الممر الاقتصادى الأمريكى فى مواجهة مشروع الحزام والطريق الصينى، فضلًا عن أوهام إسرائيل الكبرى، والمخاوف مما يطلقون عليه لعنة العقد الثامن التى انهارت فيه تاريخيًا مملكة داود.

 

الخيار الثانى: الرد على الدعم الدولى لحق الشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة ببسط النفوذ على الضفة الغربية ومواصلة تدمير الحياة فى قطاع غزة، للحيلولة دون امتداد جغرافى يمكن الشعب الفلسطينى من إقامة دولته المعترف بها من 159 دولة حول العالم.

 

فالدولة أرض ذات حدود معترف بها دوليًا، وشعب متجانس يقيم على تلك الأرض، وسلطة شرعية تدير شئون الدولة، ومن ثم سيحاول الصهاينة إزالة مقومات بناء الدولة بالتهام مزيد من الأرض والسعى لتهجير الشعب، ولست مستبعدًا محاولة اغتيال قيادات بالسلطة كما فعلوها من قبل مع الشهيد ياسر عرفات.

 

فهل استوعب العالم رسائل الفنانين الذين أهدوا الأمم المتحدة أعمالهم المناهضة للعنف والحرب؟ وهل يمكن إصلاح الأمم المتحدة لأداء دورها قبل أن تعيد حرب عالمية ثالثة كتابة شهادة وفاتها لتبحر سفينة الإنسانية فى محيط جديد من الدماء؟ 

هذا ما ستجيب عنه الأيام القريبة المقبلة.

حفظ الله مصر والإنسانية