
د.إبراهيم درويش
رؤية جديدة لتوزيع الأسمدة فى مصر
تُعدّ الأسمدة الزراعية الركيزة الأساسية لزيادة إنتاجية الفدان وضمان الأمن الغذائى فى مصر، فهى تحسّن من خصوبة التربة، وتزيد الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 15 و25%، وتساعد على الاستخدام الأمثل للمياه وتقليل الفاقد. ولا غنى عنها خاصة فى الأراضى الجديدة التى تحتاج إلى تعويض العناصر الغذائية المفقودة، ما يجعلها محورًا رئيسيًا فى السياسات الزراعية والاقتصادية.
ورغم أن مصر تنتج أكثر من 20 مليون طن سنويًا، بينما يقدَّر الاستهلاك المحلى بـ9–10 ملايين طن فقط، فإن المشكلة الحقيقية تكمن فى التوزيع وليس فى الكميات.
أنواع الأسمدة المستخدمة
تعتمد منظومة التسميد فى مصر على عدة أنواع: الأسمدة الكيميائية مثل النيتروجينية «اليوريا ونترات النشادر»، الفوسفاتية «السوبر فوسفات»، البوتاسية «سلفات البوتاسيوم»، والأسمدة المركبة «NPK». وهناك الأسمدة العضوية من المخلفات الحيوانية والنباتية، إضافة إلى الأسمدة الحيوية التى تعتمد على ميكروبات نافعة تساعد فى تحسين الامتصاص. لكل نوع استخدامه حسب طبيعة التربة والمحصول، لكن فى النهاية يظل عنصر السماد عصب الإنتاج.
التحديات القائمة
رغم جهود الدولة، تواجه منظومة توزيع الأسمدة عدة عقبات، أبرزها:
1 - تأخر التوريد نتيجة توقف بعض خطوط الإنتاج أو نقص الغاز الطبيعى فى مواسم الذروة، ما يؤدى إلى ارتفاع الأسعار وتراجع الإنتاجية، ما يضطر بعض المزارعين إلى تقليل التسميد أو الاستغناء عنه.
2 - وجود فجوة سعرية كبيرة بين السماد المدعوم 450-500 «جنيه للشيكارة» وبين السوق الحرة أو التصدير «أكثر من 1000 جنيه»، وهو ما يخلق سوقًا سوداء.
3 - ربط التوزيع بنوع المحصول فتح باب التلاعب؛ حيث يسجل بعض المزارعين محاصيل كثيفة الاستهلاك على الورق فقط للحصول على حصص أكبر، ما يضعف دقة البيانات الرسمية ويؤثر على التخطيط الزراعى.
جهود الدولة المصرية
اتخذت الدولة المصرية خطوات حاسمة لضبط السوق، منها:
1 - إنشاء العديد من مصانع الأسمدة لزيادة الإنتاجية، منها مثلًا مجمع العين السخنة للأسمدة الأزوتية، أحد أكبر المجمعات فى الشرق الأوسط.
2 - تخصيص 55% من الإنتاج المحلى للتوزيع عبر الجمعيات الزراعية بأسعار مدعومة.
3 - تطبيق منظومة كارت الفلاح الذكى والتتبع الإلكترونى لمراقبة حركة الأسمدة.
4 - تفعيل الرقابة الميدانية والحوكمة الرقمية للحد من التهريب وضمان العدالة.
هذه الجهود خففت كثيرًا من أعباء المزارع، لكنها لم تمنع بعض الثغرات الناتجة عن آلية الصرف الحالية.
مقترح جديد يحقق عدالة التوزيع ويحد من السوق السوداء
المقترح المطروح هو تحويل معيار توزيع الأسمدة من «نوع المحصول» إلى «المساحة المزروعة» أى أن يُصرف لكل مزارع مقدار من السماد بناءً على مساحة أرضه، وفق متوسط استهلاك عام للمحاصيل الصيفية والشتوية. وتُترك له حرية إدارة هذه الحصة حسب احتياجات محصوله الفعلية.
وفى حال احتاج المزارع إلى كميات إضافية لمحاصيل تتطلب تسميدًا أعلى مثل الخضر، تُتاح له أسمدة حرة بسعر اقتصادى داخل الجمعيات، بعيدًا عن السوق السوداء.
آلية التطبيق المقترحة
1 - تحديد قاعدة معيارية: وضع جداول استهلاك (كجم/فدان) تُحدث دوريًا حسب طبيعة التربة والمناخ.
2 - تسجيل دقيق للمساحات: من خلال كارت الفلاح الذكى وربط البيانات بصور فضائية للتحقق.
3 - توزيع حصص أساس: تصرف إلكترونيًا وبدفعات مرنة متوافقة مع مراحل التسميد.
4 - إتاحة شراء إضافى: عبر الجمعيات بأسعار اقتصادية خاضعة لتتبع رقمى.
5 - شبكة تتبع ومخزون احتياطى: لربط المصانع بالمخازن وضمان سد أى فجوة فى حالة تعطل خطوط الإنتاج.
الفوائد المتوقعة
1 - عدالة اجتماعية: إنهاء التلاعب فى تسجيل المحاصيل وضمان وصول الدعم للمستحقين.
2 - تحسين البيانات: الحصول على سجلات دقيقة بالمساحات المزروعة تفيد فى التخطيط الزراعى.
3 - تقليل التسريب: الحد من تهريب السماد إلى السوق السوداء.
4 - مرونة واستدامة: منظومة أكثر قدرة على مواجهة أزمات الطاقة أو تعطل المصانع.
5 - رؤية استراتيجية: تحديد الكميات المطلوبة سنويًا بناءً على التوسع الأفقى، لا وفق رغبات المزارعين المتغيرة.
إجراءات مكملة
لا يكتمل نجاح المنظومة دون سياسات داعمة، مثل:
1 - تعزيز الإرشاد الزراعى وتدريب المزارعين على التسميد الذكى.
2 - تشجيع التحول إلى الأسمدة العضوية والحيوية.
3 - تطوير الصناعة السمادية عبر الاستثمار فى الأمونيا الخضراء والهيدروجين الأخضر، ومشروعات مثل مجمع الفوسفوريك بطاقة 1.2 مليون طن سنويًا، وتوسعة مصانع أبو قير وموبكو.
4 - التوسع فى إنتاج الأسمدة بطيئة الذوبان والمركبة لرفع الكفاءة وخفض الاستهلاك.
مستقبل واعد
تتجه مصر نحو صناعة سمادية أكثر استدامة، عبر إدخال الطاقة النظيفة وفتح أسواق تصديرية جديدة، خاصة فى إفريقيا، مع الحفاظ على توفير الاحتياجات المحلية بصورة عادلة ومنتظمة.
.. وأخيرًا
ضبط سوق الأسمدة ليس مجرد مسألة إدارية، بل قرار استراتيجى يرتبط مباشرة بالأمن الغذائى والاقتصاد الريفى. وتبنى رؤية «التوزيع وفق المساحة» يعزز العدالة والاستدامة، ويضمن وصول الدعم إلى الفلاح الحقيقى، ويمنح الدولة بيانات دقيقة لإدارة مواردها الزراعية بحكمة.
بهذا يمكن لمصر أن تحوّل وفرة الإنتاج إلى عدالة توزيع، وتبنى قطاعًا زراعيًا أكثر مرونة وقدرة على مواجهة تحديات المستقبل.