 
                            د.إبراهيم درويش
البيئة... الرَّحِمُ الثَّانِى ومفتاح التنمية الزراعية المستدامة فى مصر
البيئة ليست مجرد إطار يحيط بنا، بل هى الكيان الذى يحتضن الإنسان كما يحتضن الرحم جنينَه. فهى «الرَّحِمُ الثَّانِى» الذى يمدنا بالحياة والغذاء والهواء والماء وكل مقومات البقاء. وعندما يختل هذا الرحم يختل معه التوازن بين الإنسان والطبيعة، فتضطرب منظومة الحياة ويُصاب الكوكب بالحمّى.
وفى ظل ما تواجهه مصر والعالم من تغيرات مناخية، وندرة فى المياه، وضغوط اقتصادية وسكانية، أصبح الحفاظ على البيئة وتنمية الموارد الزراعية بصورة مستدامة ضرورة وطنية وليست خيارًا تنمويًا.
لقد أدركت الدولة المصرية هذه الحقيقة مبكرًا، فوضعت البيئة فى قلب رؤية مصر 2030، واعتبرت الزراعة بوابة الأمن الغذائى ومفتاح الاستقرار الاجتماعى والاقتصادى.
أولًا: البيئة... نظام إلهى متكامل لا يقبل العبث
قال الله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ [الرحمن: 10]، أى أن الأرض خُلقت لتكون صالحة للحياة، متوازنة فى مكوناتها. ومن هنا، فإن أى إخلال بهذا التوازن يُعد خروجًا عن الفطرة التى أرادها الله.
فتلويث المياه، أو تبديد الموارد، أو التعدى على الأراضى الزراعية، ليست مجرد مخالفات بيئية، بل ذنوب فى حق الأجيال القادمة.
ويقول النبى ﷺ: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».
وهذا الحديث يلخص جوهر التنمية المستدامة: الزراعة كعبادة، والإنتاج كمسئولية، والتنمية كأمانة.
ثانيًا: من التحدى إلى الفرصة — التحول الأخضر فى الزراعة المصرية
1 - تواجه مصر مجموعة من التحديات البيئية والاقتصادية المتشابكة.
2 - محدودية الموارد المائية التى لا تتجاوز 55.5 مليار متر مكعب سنويًا من مياه النيل.
3 - تزايد الطلب على الغذاء مع وصول عدد السكان إلى أكثر من 110 ملايين نسمة عام 2025.
4 - فقدان مساحات من الأراضى الخصبة بسبب الزحف العمرانى والملوحة.
لكن هذه التحديات تحولت إلى فرص حقيقية للابتكار بفضل تبنى الدولة مفهوم «التحول الأخضر»، فشهد القطاع الزراعى نقلة نوعية فى السنوات الأخيرة عبر مجموعة من المشروعات العملاقة:
1 - مشروع الدلتا الجديدة الذى يستهدف استصلاح أكثر من 2.2 مليون فدان فى قلب الصحراء باستخدام أنظمة رى حديثة موفرة للمياه.
2 - مشروع مستقبل مصر الزراعى الذى يعد نموذجًا متكاملًا للإنتاج والتصنيع الزراعى فى آنٍ واحد، ويعتمد على الطاقة الشمسية والمياه الجوفية.
3 - مبادرة حياة كريمة التى تسعى إلى رفع جودة الحياة فى الريف المصرى من خلال تطوير البنية التحتية وتحسين الخدمات الزراعية.
4 - مشروعات تبطين الترع والتحول للرى الحديث التى أسهمت فى تقليل الفاقد المائى بنسبة تتجاوز 15% على مستوى الجمهورية.
ثالثًا: الأرقام تتحدث — الزراعة ركيزة الاقتصاد الأخضر
تُظهر أحدث الإحصاءات الرسمية أن الزراعة المصرية أصبحت أحد أعمدة الاقتصاد الوطنى:
فقد بلغت قيمة سوق الزراعة المصرية نحو 43.1 مليار دولار أمريكى فى عام 2024، ومن المتوقع أن تصل إلى 85.5 مليار دولار بحلول عام 2033، بمعدل نمو سنوى مركب يقارب 7.1% (تقرير IMARC Group 2024).
تمثل الزراعة والغابات وصيد الأسماك نحو 13.7% من الناتج المحلى الإجمالى لمصر فى عام 2024 (البنك الدولى).
حققت الصادرات الزراعية المصرية رقمًا قياسيًا جديدًا بلغ أكثر من 7.2 مليون طن حتى سبتمبر 2025، بزيادة تتجاوز 600 ألف طن عن العام السابق، مما يعزز مكانة مصر ضمن أكبر عشر دول مصدّرة للمنتجات الزراعية عالميًا (Daily News Egypt، 2025).
توسعت الدولة فى تحديث شبكات الرى والطاقة الشمسية لتقليل التكلفة ورفع كفاءة الموارد، مع دعم المزارعين بالقروض الميسرة والتحول الرقمى فى تسويق المحاصيل.
هذه الأرقام لا تمثل مجرد إنجازات كمية، بل دليلًا على نجاح الرؤية الوطنية فى تحويل الزراعة من قطاع تقليدى إلى قاطرة للتنمية الخضراء.
رابعًا: البعد الأخلاقى والدينى فى حماية البيئة
إن بناء اقتصاد أخضر لا يكتمل دون بناء وعى أخلاقى ودينى يرسخ ثقافة الحفاظ على البيئة.
يقول الله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]، أى طلب من الإنسان أن يعمر الأرض لا أن يدمرها.
وهذا المبدأ يشكل الأساس الأخلاقى الذى يحكم علاقة الإنسان بالطبيعة. فالمزارع الذى يرشد فى استخدام المياه، والمواطن الذى يزرع شجرة، والباحث الذى يطور تقنيات للرى الموفر، كلهم شركاء فى عبادة الإعمار.
وقد أطلقت وزارة البيئة حملات توعية متعددة مثل مبادرة «اتحضر للأخضر» لتعزيز الوعى البيئى لدى الشباب، ودمج قيم المسئولية فى المدارس والجامعات.
خامسًا: التعليم والبحث العلمى... وقود التنمية المستدامة..
تدرك مصر أن الزراعة المستدامة تبدأ من العلم والمعرفة، لذلك تضاعف الاهتمام بالبحث العلمى فى مجالات المياه والمناخ واستنباط الأصناف المقاومة للجفاف والملوحة.
فعلى سبيل المثال، يعمل مركز البحوث الزراعية على تطوير أكثر من 20 صنفًا من القمح والأرز والذرة تتحمل الإجهادات البيئية، بينما تركز الجامعات الزراعية على إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعى فى إدارة الحقول.
كما تم دعم مشروعات الاستشعار عن بعد لتحديد أنسب المناطق للاستصلاح الزراعى، ومتابعة كفاءة الرى وجودة التربة فى الوقت الحقيقى.
هذه الجهود العلمية تمثل الضمان الحقيقى لاستدامة الزراعة المصرية وتكيّفها مع التغيرات المناخية القادمة.
سادسًا: البيئة فى الأرقام — تحديات وفرص
بحسب مؤشر الأداء البيئى العالمى لعام 2024 (EPI–Yale):
تحتل مصر المركز 103 عالميًا فى محور تغير المناخ، ما يعكس الحاجة إلى مزيد من الجهود فى خفض الانبعاثات وتحسين إدارة المخلفات.
يبلغ معدل استرجاع النفايات نحو 6.5% فقط، وهو ما تسعى الدولة إلى رفعه عبر برامج التدوير واستخدام المخلفات الزراعية كوقود حيوى وسماد عضوى.
تم تشجير آلاف الكيلومترات على جوانب الطرق والمناطق الصناعية فى إطار خطة «مليون شجرة» ضمن مبادرة حياة كريمة.
ورغم هذه التحديات، تمضى مصر بخطى ثابتة نحو تحقيق الحياد الكربونى بحلول عام 2050، مستفيدة من برامج الطاقة المتجددة فى الرى والزراعة، وتوسيع استخدام الأسمدة الحيوية والصديقة للبيئة.
 
  
                                





