
د. ايناس الشيخ
فى بلد البنات
من نافذة غرفة فى بلدة صغيرة...تُطل (عصفورة) على أحلامها التى أودعتها عناية السماء لعلها تعود محملةً إليها فى يوم، بعين جرى دمعها بثمنٍ ممزوج بألم... تطل لتجد غيرها من العصافير التى ترفرف بأحلامها فرحاً فى السماء... فتتساءل: ما المانع من أن أحلق بأحلامى مثلهم، ما الفرق بينى وبينهم إذا كانت الخلقة واحدة، فلدى من الأحلام ما تشتهى التعلق برفرفة أجنحة؟! فما تكاد أن تنهى سؤالها الذى يدور فى خاطرها حتى تفيق على حقيقة أن المشكلة ليست فى خلقة الله، بل فى بدعة بشرية... تلك الضوابط المجتمعية من عادات وتقاليد وثقافة (قصقصت ريش أجنحتها) وأسلبتها قوة التحليق بأحلامها مثلهم... سلاسل وقيود صُنعت حلقاتها من تعقيدات بشرية؛ صنعها الإنسان ليحكمَ بها قبضته على إنسان آخر، ولكن للأسف... سطو السلاسل لا يكبل إلا الأضعف، ونحن فى مجتمعاتنا الشرقية (البنت) دائماً هى الكائن الأضعف!
دعونى أقصُ عليكم فى مقالى اليوم... قصة الكثير من البنات اللاتى وقعن تحت سطوة الضوابط المجتمعية.
تبدأ القصة مع ولادة البنت فقالوا ( لما قالولى ولد اشتد ضهرى واتسند، ولما قالولى بنت اتهدت الحيطة علي)، وفى تربيتها وهى تكبر مثل الزهرة وتفوح أنوثتها قالوا ( دلع بنتك تعرك، ودلع ابنك يعزك)، وعندما جاءت لتطلبَ حقها فى التعليم قالوا (مسير البنت للجواز)، وعندما بدأ رحيق أحلامها يفوح قالوا (المره لو طلعت للمريخ أخرتها للطبيخ)، وعندما تمردت أحلامها قالوا (البنت يا تسترها يا تقبرها).
عند هذه الضوابط المجتمعية انتهت أحلام الكثير من البنات، ولكن كان منهن من تمردت أحلامهن، فلم يضبطن إيقاع الساعات على إيقاع ضوابط المجتمع، ولم تقفْ عقاربهن عند تلك الضوابط لتدق ناقوس الخطر... فعقاربهن لم تعترفْ إلا (بوأد أحلامهن) ناقوس خطر.
ليس من الحكمة أن يربى الأهل البنت اليوم على مثل ما تربوا عليه الأمس... ليس من الحكمة أن نقحمَ تلك الضوابط المجتمعية _بمثل هذا التحجر _ فى جولات تحتاج لمزيد من المرونة ونراهن على استمرارها فى حياة العولمة، فلم يكن الأمس هو اليوم... فمن الحكمة أن نزيد من مرونة تلك الضوابط فنجعلها تتوافق مع متغيرات العصر، حتى لا تتحول إلى قطع ثياب رثة لا نستطيع أن نرتديها بعد.
مع كامل احترامى واعتزازى بهويتنا الشرقية وبالقيم والعادات والتقاليد والأعراف التى تربينا ونشأنا عليها، ولكن المنزه عن الخطأ هو كتاب الله وحده (عز وجل)، فإذا كانت هذه الضوابط المجتمعية أتت لنا بالكثير من القيم والمبادئ والأصول والنشأة السليمة التى بكل تأكيد نفخر بها ونود الحفاظ عليها، ولكن على النقيض كان بعض هذه الضوابط المجتمعية مجحفًا حقاً فى حق البنت فى كثير من الأمور التى جعلت منها كبش فداء لهذا.
«لا تثقلوا على ظهر البنت عبء ما تحمله من ضوابط مجتمعية تود الحفاظ عليها خلال رحلتها... دعوها ترفع ظهرها المنحنى اعتزازاً بقيم هذه الضوابط وتتنفس ... فإن لم تكن تلك الضوابط المجتمعية سنداً ودعماً لظهرها... فالخوف هنا أن تُسقِطَها وتَسقط معها».