الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
بين أم كلثوم وبنيامينو جيلى

بين أم كلثوم وبنيامينو جيلى






مر علينا هذا الأسبوع ذكرى عطرة لرحيل سيدة الطرب وكوكب الشرق أم كلثوم ولعلنا قد استهلكنا فيها كل المديح وقيل فيها كل ما قيل فى قامات بحجم أم كلثوم، لكن فى الحقيقة هناك أحداث كثيرة ومواقف فى حياة أم كلثوم لم يكشف عنها اللثام أكثر مما نعرفه بالفعل، فلقد كانت أم كلثوم تقف دائمًا فى مساحة أعظم مما تخيل الجميع عالميًا واجتماعيًا وموسيقيًا وهى مساحة بالطبع بحجم عظمة مصر بالضرورة والتى يحلو لنا أن نسميها كما قال عنها المايسترو العظيم آرتور توسكانينى «سيدة دويلات الشرق الأوسط» وأى بلاغة وجمال تحف بهذه الصفة بل إنها أيضًا فى عيون فيلهلم كيمف أعظم مايسترو قاد أوركسترا فيينا السيمفونى «مهد الفن والموسيقى».. الحقيقة أن ما نريد أن نطرحه هو خيط رفيع بين عظمة أم كلثوم وبين عظمة مصر كمركز إشعاعى للثقافة وخصوصًا الموسيقى ليس فقط فى الشرق الأوسط بل فى العالم أجمع – أو هكذا كانت – وربما لا تزال النار تحت الرماد تحاول أن تجد لها هبة ريح لتتقد من جديد وتعلو جذوتها لتنير الدنيا كما كانت فى الماضى.. فى عام أواخر عام 1948 كتب المحرر إليسيو سكارفوليو فى صفحة الفن فى جريدة Il Mattino – المساء النابوليتانيه مقالا يتحدث فيه عن مطربة عظيمة فى الشرق فى المملكة المصرية بهرت أحد أساطير الغناء الأوبرالى فى تاريخ العالم أجمع وهو الفنان الإيطالى الشهير بنيامينو جيلى Beniamino Gigli وكتب سكارفوليو «يذكر جيلى أنه كان مبهورًا حتى أنه قد تجمد من سطوة هذا الصوت الذى قدره بـ4 أوكتاف.. وقال هذا التعبير الذى طالما ردده موسيقيو نابولى ومطربو الأوبرا الإيطاليون فقال لقد دقت طبلتى أذنى ولانت بين القوة والحنو ... وتمنيت أن لو تعرف هذه المطربة التى طبقت شهرتها مصر والإقليم الشرقى كله تمنيت لو تعرف الإيطالية حتى أقف معها على خشبة واحدة نغنى سويا ولو مقطعًا وحيدًا أو أغنية نابوليتانية» الحقيقة أن هذه ليست مبالغة من سكارفوليو بل هو نقل حرفى لما قاله بنيامينو جيلى عن أم كلثوم .. لكن الحكاية غريبة وغير منطقية فأين رآى بنيامينو أم كلثوم؟ وأصبحت هذه فكرة أكثر صعوبة حينما أعيد نشر المقال فى الكورير ديلا سيرا عام 1958 بعد وفاة بنياميونو جيلى وأعيد تدويرة فذكر فيه الصحفى الذى أعاد تدويرة وربما كان هناك جزءا مفقودا لم يتوفر لديه ذكر أن ام كلثوم صوتها 7 أوكتاف وأن جيلى قد قابلها فى بيروت.. ومن هنا تفجر الشك لأن جيلى لم يذهب قط إلى بيروت.. من هنا حاولنا توثيق بعض الحقائق فى قصة جيلى وأم كلثوم.. بداية يجب أن نعرف تماما أن مصر كانت أحد منارات فن الأوبرا فى العالم ولازالت وكانت دار الأوبرا المصرية ملتقى أعظم فنانى الأوبرا ومع الأسف لا نجد توثيقًا جديًا لتاريخها وتاريخ العروض التى عرضت على خشبتها منذ إنشائها فى العصر الخديوى واستكمال إشعاعها فى العصر الملكى حتى احتراقها.. ولعلنا لن ندهش إذا عرفنا أن أسطورة الغناء الأوبرالى النابوليتانى إنريكو كاروزو Enrico Caruso كانت أحد أهم انطلاقته فى مصر فى العقد الأول من القرن العشرين فقدم على مسارحها أوبرا أميتشى فرانشيسكو وأوبرا لا بوهيمين وتوسكا – مقتطف أى مختصره – وقضى بين مسارح القاهرة والإسكندرية 9 أشهر بمرافقة أرتور توسكانينى المايسترو العظيم والذى قاد أوركستراه فى مصر ثلاث مرات.. وذاع صيت كاروزو من مصر.. لكن لبنيامينو جيلى حكاية مختلفة ولأن جيلى كان أكثر شهره وحظًا من كاروزو أولا لأن جيلى كان أوفر حظا منه فى العمر وفى الشهرة أيضا فمعظم الأغانى النابوليتانية الشهيرة والإيطالية الكلاسيكية كتبت ولُحنت لجيلى من الأساس مثل الأغنية الخالدة Mamma son tanto felice – والتى غناها العالم كله من بعده الأهم من ذلك أن جيلى كان له سطوة فى الحقبة الفاشية لأنه كان من المقربين لدى موسولينى سجل بصوته نشيد الفاشية الشهير Giovinezza الشبيبة بعد أن غناه كارلو بوتى وله أغانى عديدة فى تمجيد موسولينى والفاشية.. منها أغنية الشهيرة Duce Duce وهو لقب موسولينى والتى غناها ايضا بوتى.. ومن هنا تبدأ حكاية جيلى فى القاهرة.. فبعد اعدام موسولينى طالت الملاحقة بعض خواصة فأختفى البعض وخرج البعض من إيطاليا لفترة من هنا قرر جيلى القيام برحلة خارج إيطاليا ليقدم أوبرات وأغانى فى أماكن عدة وبين حين وآخر يعود لإيطاليا وهكذا ومع أنه لم يكن مغضوبا علية من النظام الجديد لأن موهبة جيلى كانت أكبر من ان تجعل الإيطاليين يحاكمون فيه رجل الحاشية وينسون عظمته كفنان وحب الشعب الجارف له.. وبينما كان الملك فاروق ملك مصر والسودان آنذاك يعشق فن الأوبرا وعلى صداقة بأعظم فنانى الأوبرا مثل السبرانو الشهيرة إيرما كابتشى والتى ظلت على علاقة وطيدة به حتى فى منفاه.. من هنا قام الملك فاروق بدعوة بنيامينو جيلى هو وفرقته لمصر فى عام 1948 ليقدم عدة أوبرات فى دار الأوبرا القديمه كان من بينها أوبرا كارمن وزواج فيجارو وحلاق أشبيلية كما كان يغنى الأغانى الكلاسيكية الإيطالية والنابوليتانيه فى قصور علية القوم وفى قصر الملك فاروق ذاته.. وكانت أم كلثوم على دراية واسعة بالموسيقى العالمية فصحبت ذات يوم القصبجى عازف العود والملحن الشهير إلى دار الأوبرا لحضور أوبرا كارمن الذى يقوم بدور البطولة فها بنيامينو جيلى ولما عرف بينامينو أنها بين الجمهور حياها ودعاها إلى الكواليس هى والقصبجى ثم بعد الحفل دعاهم لحفلة عشاء بسيطة على الطريقة الإيطالية وغنت أم كلثوم أمام جيلى الذى طار طربا بها.. وسجل فى لقاءاته هذا الحدث المهم، يعتبر بنيامينو جيلى أحد أعظم مغنين الأوبرا فى تاريخ القرن العشرين بل ومن أعظم مغنى الصولو فى إيطاليا ورغم ميلاده فى ريكانتى إلا أنه ذو أصول ومزاج نابوليتانى بحت وحصل جيلى على ألقاب كثيرة منها مغنى الدوق وكان هو والمغنى الكبير كارلو بوتى والمغنى كارفيل حيث تنافسا على صدارة الأغنية فيما بين العشرينيات والخمسينيات لكن جيلى تميز بأنه مغنى اوبرا متخصص على عكس كارفيل وبوتى.. توفى بنيامينو جيلى عام 1957 فى روما.