الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
جان ماكس البرت بين الهندسية والتجريد وفلسفة التناغم

جان ماكس البرت بين الهندسية والتجريد وفلسفة التناغم






بحسب المعتقد السائد فى الفن وبشكل عام أن الفنان يقترب من الاكتمال إذا أجاد فنون عديدة بل وأصبح من الناحية الفعلية يحاول أن يعبر عن نفس الفكرة بين هذه الفنون العديدة التى يجيدها ومن ثم يدخل لما يعرف بتعميم النظرية فى أساليب التعبير أى أن الفكرة نفسها يمكن أن يعبر عنها فى فنون عدة وبهذا الشكل يصبح هو ذاته قالبا ونظرية، ومعظم الفنانين الذين ساروا على هذا النهج كان لهم أنتاج فكرى وتنظيرى كبير فى نظرية الفن ويقتربون أكثر من فلسفة الفن والتى نعرف أن من مارسوا هذا النوع من الفلسفة لم يكونوا فنانين فعليين وهكذا فأن الفنان الذى يتحول من جراء إتقانه وتجربته لمنظر فعلى وفيلسوف يكون أكثر عمقا من تلك الذين لم يمارسوا الفن بالأساس ولابد أن نذكر هنا ما قاله تيودور أدورنو عميد مدرسة فرانكفورت الألمانية وأستاذ علم الجمال حيث يقول – ولابد للفنان ان يكون على قدر كبير من الشمولية ملما بمعظم فنون عصره لأن هذا التناغم الذى يتحقق من اختلاط الفنون ببعضها البعض يجعل من السهل علية اكتشاف الجمال كجوهر فى كل الفنون ومن ثم يصبح شغله الشاغل أبراز الجمال من حيث هو القيمة القصوى والمرادة من الفن ذاته مهما تعددت المحاور التى تشتبك معه فى العمل الفنى.. لذا فأن التنوع يدفع الفنان دفعا نحو الجمال وماهيته – والحقيقة أن كلام أدورنو يعتبر مسلمة ضمنية سار عليها الكثير من الفنانين فى معظم العصور وكان الفنان هو رسام وموسيقى ونحات وفيلسوف وهذا التنوع هو المعين الذى شرب منه أبيلليس الأغريقى ودافنشى وبرونيليسكى وغيرهم كثيرين أما فى القرن العشرين فأن فنانا اليوم جان ماكس البرت هو خير مثال لمذهب الشمولية فى الفن والذى لم يعرفه الكثيرون الذين انشغلوا بتخصصهم الفنى فقط حتى عندما قرروا إنتاج فن فى مناحى أخرى الكثير منهم أخفق فهذا بيكاسو الذى كتب مسرحية كانت شهادة وفاة له فى فن المسرح فحينما فتح الستار لتبدأ المسرحية لم يكن فى مقاعد الجماهير غير بيكاسو وحبيبته يتبادلان القبل ومدير الإنتاج الذى قرر أن يستمر العرض حتى نهايته وكانت نادرة من نوادر المسرح فى القرن العشرين، وهكذا فأن الشمولية فى الفن ملكة لا يملكها غير الذين أخذوا الفكر والعلم جنبا إلى جنب مع الفن كمهارة فليس لرجل لم يكمل تعليمه ولا هيكلة الأكاديمى مثل بيكاسو أن يكون ناجحا فى غير مجال موهبته ونعنى بذلك الرسم والنحت والفن التشكيلى عامة لكن اليوم الفنان الفرنسى الكبير والفيلسوف جان ماكس ألبرت والذى يطلق مؤرخو الفن عليه ألقابا عديدة مثل الفيلسوف والمعمارى وصاحب التناغم وهكذا ويرجع ذلك أن جان ماكس البرت درس الفن دراسة وافية وكان صاحب موهبة كبيرة.
وتعتبر النظرية الفنية عند جان ماكس البرت لها عدة محاور وارتكازات ترتكز عليها أهمها هى الفكرة الرياضية والكمية فى الفعل التشكيلى وهذا ليس طرحا سهلا بالمرة لكنها طرحا رياضيا معقدا قد يبدو للمتلقى بسيط وسهل حينما ينظر للعمل الفنى لكنه معقد فى تنظيره وهذه أحدى عبقريات جان ماكس لأنه ينتج فنا صعبا من الناحية النظرية لكنه سهلا للمتلقى. ونستطيع أن نقول ان هناك مسلمات فى فن جان ماكس أولها التناغم، والتناغم يأتى من خلط الجوهر الفنى للفنون فى العمل التشكيلى ولأن جان ماكس كان موسيقيا يمارس الموسيقى خصوصا موسيقى الجاز لأنه كان يعزف على آلة الترومبيت لذا فإن استخدام ماكس لمبدأ من مبادئ الفن مثل مبدأ التناغم جاء من أنه وجده بشكل أوضح فى الموسيقى.
وبالطبع فى عصر النهضة حينما آل الفنانين على أنفسهم أحياء العلوم والفلسفات القديمة ومع طفرة الانفتاح فى الفن نالت فكرة العمارة والفن من وجهة نظر هندسية ورياضية اهتماما كبيرا، لكن أيضا التدجين بين الموسيقى والفن التشكيلى كان نظرية قفزت من العصور الكلاسيكية لعصر النهضة، والحقيقة أن دراسة جان ماكس البرت لكرتونات فنانين عصر النهضة وعلى رأسهم عمدة عصر النهضة ليوناردو دافنشى أثرت فيه تأثيرا شديدا لأنها كانت تمثل شقين مهمين لاقى هوى لدى جان ماكس الشق الأول هو التخطيط الهندسى للعمل الفنى قبل تنفيذه ووضع سيناريوهات كثيرة لتنفيذه ومن المعروف أن هذا الأسلوب كان على أشده عند دافنشى ورافايل سانزيو  ولعلنا نستطيع ان نؤكد للقارئ أن فكرة التجريد التى لحقته فيما بعد هى بالأساس اختزال للطرح الرياضى والهندسى فى العمل الفنى مع التناغم الذى يخلقه المعنى من وراء العمل ويظهر ذلك بشكل واضح فى منحوتاته.
أما الشق الثانى الذى ظهر فى أعمال ماكس متأثرا بكرتونات عصر النهضة هو الاتزان الذى قد لا يتأتى من تساوى إحداثيات الشكل لكنه قد يتأتى عند ماكس من التناغم وتدريب العين على قبول التجريد وهذا يظهر أيضا فى منحوتاته واسكتشاته التجريدية على السواء.
علينا أيضا أن نؤكد أنه على الرغم من التصنيف العام لجان ماكس البرت يعتبره من فنانى التجريد لكننا لا نستطيع تقبل ذلك بشكل مطلق لأن ماكس لا يخطو للتجريد دفعة واحدة مثل الكثيرين من أبناء جيله لكنه يأخذ التجريد وسيلة وليس غاية للتعبير عن التناغم ومخاطبة عين المتلقى بشكل أكثر بساطة من غير استخدام التجريد المطلق وهذا فى الحقيقة أهم ما يميز جان ماكس البرت ويوضح هو لماذا لم يكن يميل للتجريد المطلق قائلا – الحقيقة أننى فى مرات عديدة لم أستطع أن أشرح لتلاميذى بشكل مقنع الهدف من التجريد الكامل وربما لأننى أنا نفسى غير مقتنع به بشكل مطلق لكننى مقتنع أكثر بأن يكون الفنان قادر على تجريد بعض عناصر عملة الفنى دون ان يخل بباقى العناصر كما تفعل الطبيعة تماما فيكون فرع الشجرة المكسور والملقى على الأرض عنصرا تجريديا كلوحة خلفيتها التراب وتظل الشجرة معظم العناصر التى تشكل لوحة تعريفية كلاسيكية – وعلينا أن نعترف ان كلام جان ماكس أكثر قبولا من كلام كثيرين يروجون للتجريد بشكل مرضى يجعلنا نشعر بأنه مفروض على أصحاب المواهب والمهارات المتواضعة فى الفن.
ولد جان ماكس البرت فى لوشى فى فرنسا عام 1942 ودر الفن فى مدرسة الفنون الجميلة فى باريس والتى تهتم بنظريات الفن والهندسة معا ومن ثم تعتبر أكثر ثقلا من كيات أخرى حتى سان جوليان نفسها.