
د. ايناس الشيخ
هل اختفت الأسرة المصرية؟!
بين سينما الأبيض والأسود وسينما الألوان.. كانت بداية حكاية الأسرة المصرية، وبداية الرجل المصرى (عائل الأسرة) لنجده فى أحضان أرضه يعطيها الجهد ليستمدَ من خيرها الرزق، وفى أحضان أسرته يعطيها الاحتواء والأمان ليستمدَ من دفئها معنى المسئولية والعزيمة.. طال ارتباط المصرى بأرضه حتى جاء عصر الانفتاح والعولمة، فجاءت سينما الألوان وأصبح معها (عائل الأسرة) مهاجراً للخليج باحثاً عن الرزق وساعياً وراء المال، و(تأنثت الأسرة) لتختبرَ معها قوة إدارة المرأة المصرية للحياة!.. التى تحولت أيضاً بدورها من أم مربية ودور رئيسى فى تنشئة الأبناء إلى امرأة عاملة.. ومن هنا تعددت أدوار الأسرة المصرية واختلت!
شعور بالبرودة الشديدة بعد الدفء، والانزعاج من الضجيج بعد الهدوء، والخوف بعد الأمان، والحنين الشديد لأيام سرقتنا إليها، بالرغم من أننى لم أذق حلاوتها سوى فى أفلام كلاسيكية قديمة، وروايات نجيب محفوظ، وحكايات الأجداد والآباء..فما حال من ذاق حلاوة أيامها إذًا!.
فى مشهد لمائدة طعام يجتمع حولها شمل الأسرة من كبير وصغير ليتقاسموا الخبز فيتقاسمون معه الألفة والمحبة إلى مشهد أطباق طعام فردية تفتقر كثيراً لإحساس اللذة فهى لا تشعر إلا بالحاجة لسد الجوع فقط.. فى مشهد مناسبات واحتفالات جماعية جمعت بفرحتها قلوب الأهل والأحباب والجيران إلى مشهد احتفالات فردية اقتصرت فرحتها على قلب واحد.. فى مشهد لقعدة سمر لأسرة مجتمعة فى دفء أحضان البيت تتلهف بشدة لحكاوى وتفاعل أفرادها إلى مشهد يجسد بقوة العلاقة الحميمية بين أفراد الأسرة والعالم الافتراضى من مواقع للتواصل الاجتماعى التى تختنق صفحاتها من ضجيج التفاعل.. فى مشهد لعلاقات اجتماعية كانت شبكة متفرعة وممتدة بالود والوصال إلى مشهد لعلاقات فردية ظاهرية سطحية لا يجتمع فيها أكثر من اثنين.. فى مشهد لروابط مجتمعية قوية تأخذ قوتها من قوة الترابط والتلاحم إلى مشهد لروابط مجتمعية أصبحت حلقاتها تترابط فقط تحت مبدأ توافق المصالح، فى مشهد لمجتمع يغرز القيم والأخلاق إلى مشهد مجتمع ينشغل بجمع المال!.. افتقدنا الكثير والكثير.. فلم يكن الافتقاد مجرد حنين فردى لذكريات فحسب، بل كان أكثر عمقاً وشرخاً ليفقدَ فيه المجتمع ككل (الأسرة المصرية) بقيمتها الاجتماعية، ودورها الفعال فى التنشئة الاجتماعية.
هناك اتفاق عام من الاجتماعيين والتربويين على أن هناك مؤسسات معينة فى كل مجتمع تقوم بتنشئة الأفراد وتشكيل هويتهم الثقافية والحضارية بما يتناسب مع المجتمع، ومن بين هذه المؤسسات ( الأسرة، دور العبادة، وسائل الإعلام)، فالأسرة هى الخلية الأولى للمجتمع، وأحد أهم وسائط التنشئة الاجتماعية.
ولكن بكل أسف.. لم تعد الأسرة المصرية فى وقتنا هذا بملامحها وبنائها ونتاجها وقدرتها على التنشئة كالأسرة المصرية من ذى قبل.. فالخلية المجتمعية الأولى (الأسرة) قد تعرضت لعدة انقسامات خلوية جعلتها قائمة على النزعة الفردية لا الجماعية إلى أن باتت الأسرة المصرية بكل أدوارها معرضة للانقراض، بعدماُ اختُزِلت أغلب أدوارها بفعل التطورات والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والعولمة التى طرأت على المجتمع.
ليس من العدل أن نتهمَ الأسرة المصرية بالتراخي عن عمد فى القيام بواجبها أو مسئوليتها، فالتحديات الخارجية كانت بمثابة عائق كبير أمام الأسرة المصرية لم تستطع صده وحدها، مما أصابها بالخلل، فلم تكن (الأسرة، ودور العبادة، ووسائل الإعلام) هى وسائط التنشئة المجتمعية الوحيدة الفاعلة، بل تعددت إلى (العولمة، والتطور التكنولوجى، وتأثيرات مواقع التواصل الاجتماعى، وقوى خارجية).