الحرية مسئولية
قد يُقصد بحرية الرأى الانطلاق فى التعبيرعن الأفكار والآراء عن طريق التخاطب المباشر، أو الكتابة للأعمال الفنية والإبداعية من مقال ورواية وشعر ورسم ومسرح وسينما دون رقابة أو قيود، ولا يحكمها إلا رقابة الضمير السوى المتسق مع توجهات المجتمع اقتصاديًا وسياسيًا؛ بمشروطيات تمنع تمثل طريقة ومضمون الأفكار أو الآراء ما يمكن أن يُعد خرقًا لقوانين وأعراف الدولة التى سمحت بحرية التعبير، ويصاحب هذه الحرية غالبًا بعض أنواع الحقوق والحدود مثل حق حرية العقيدة أو الصحافة أو التظاهرات السلمية …إلخ.
فهى تُعد من القضايا الشائكة والحساسة؛ خاصة فى مجموعة دول ما يسمَّى بالعالم الثالث؛ إذ أن الحدود التى ترسمها الدول المانحة لهذه الحرية قد تتغير وفقًا للظروف الأمنية والتركيبة السكانية التى تشتمل على العرقيات والعصبيات والطوائف والديانات المختلفة التى تعيش فى كنف الدولة وتحت جناحها، وأحيانًا قد تلعب ظروف خارج نطاق الدولة دورًا فى تغيير حدود تلك الحريات.
ولأن البشرية دائمة البحث عن إقرار لحرية التعبير فى مجال الصحافة؛ لذا تم اختيار الثالث من مايو لإحياء ذكرى اعتماد إعلان «ويندهوك» التاريخى خلال اجتماع للصحفيين الإفريقيين نظّمته اليونسكو وعُقِد فى ناميبيا فى 3 مايو1991، وينص الإعلان على أنّه «لا يمكن تحقيق حرية الصحافة إلا من خلال ضمان بيئة إعلامية حرّة ومستقلّة وقائمة على التعدّدية»، وهذا شرط مسبَّق لضمان أمن الصحفيين أثناء تأدية مهامهم، ولكفالة التحقيق فى الجرائم ضد حرية الصحافة تحقيقًا سريعًا ودقيقًا.
ويمثل هذا اليوم فرصة للاحتفاء بالمبادئ الأساسية لحرية الصحافة؛ وتقييم حال مساحة الحرية لديها فى كل أنحاء العالم؛ والدفاع عن وسائط الإعلام أمام الهجمات التى تشن على حريتها؛ والإشادة بالصحفيين والمراسلين الذين فقدوا أرواحهم أثناء أداء واجبهم.
ويُتَّخذ هذا اليوم مناسبة لتذكير الحكومات بضرورة احترام التزامها بهذه الحرية، ومناسبة أيضا لتأمل قوافل وسائل الإعلام فى قضيتَيْ حرية الصحافة وأخلاقيات المهنة، وقد رُكِّز فى هذا اليوم العالمى عام 2016 على الحق فى الوصول للمعلومات والحصول على الحريات الأساسيّة؛ والتركيز على حرية المعلومات والتنمية المستدامة، وحماية حرية الإعلام من الرقابة المفرطة وضمان سلامة الصحفيين فى الإعلام المكتوب والإلكترونى على حدّ سواء.
هذه بانوراما سريعة لاستعراض الصراع على إقرار حرية الرأى والتعبير عالميًا، ولكن ما بالنا بالساحة المصرية التى يهمنا أمرها فى المقام الأول؛ خاصة فى ظل ما تشهده مصر من برامج تعمل على التحريض بالاتكاء على بعض ما يعانيه المواطن من بعض المشكلات هنا وهناك، ويتم كل ذلك تحت ستار حرية الإعلام لجذب المشاهدين؛ للحصول على أكبر نسبة مشاهدة بمصاحبة الإعلانات عن أى شىء وكل شىء؛ سعداء بما تصبه آلة الإعلام الجهنمية فى جيوبهم من ملايين الدولارات؛ ضاربين عرض الحائط بالمصلحة القومية العليا للبلاد؛ برغم معلومية الجميع أن الوطن يخوض حالة حرب حقيقية مع أعداء الداخل والخارج.
إن الحرية اللامحدودة وغير المؤطرة بقوانين حاكمة وأعراف ملزمة دون ضوابط فى ظل هذه الهجمات الشرسة واستهداف عناصر الجيش والشرطة وحالة الحرب المُعاشة؛ هى نوع من الفوضى التى يجب أن تحكمها الدولة بأجهزتها الأمنية بقبضتها الحديدية؛ للحفاظ على مكتسبات الشعب من خطط الإصلاح التى تنتهجها بجديَّة لإعادة بناء البنية التحتية لخدمة الاقتصاد والسياسة والمجتمع، فنحن لا نطالب بإحكام القبضة الخانقة لتصل إلى نوع من أنواع الدكتاتورية فى أى صورة من صورها؛ ونرفض الحرية المطلقة بلا سقف من المعايير الأخلاقية والإنسانية والوطنية؛ لأن الحرية المنفلتة تجرد الإنسان من رتبته الإنسانية، فهل يمكن أن تشكل الحرية مبررًا للتآمر والإفساد مثلاً؟!
لهذا فإننا نهدف وندعو إلى ضرورة إحكام القبضة بمعنى تعميم الإلزام والالتزام بشرف الكلمة وأخلاقيات المهنة؛ دون العمل على إثارة التوتر والقلق داخل المجتمع تحت مسمَّى الحرية الإعلامية المزعومة، وهذا يستلزم إقرار المعايير التى تحقق الأمن عصب الاستقرار الاقتصادى؛ وبوابة جلب الاستثمارات الخارجية بلا خوف من المغامرة برأس المال، الأمر الذى سينعكس بالضرورة على رفاهية الفرد والمجتمع والدولة.
إن حرية التعبير لابد أن يعرف ممارسوها أن علاقة الفرد بالمجتمع هى علاقة مباشرة تفرض عليه المشاركة بالرأى مع عدم الإخلال بالأمن والسلم والنظام، وعدم تحريض العامة أو التشكيك فى نزاهة الحكم والسلطة الحاكمة بمبرر أو بغير مبرر، وعدم الخلط بين الحق فى حرية التعبير والتجاوز غير المقبول؛ الذى يؤدى إلى الاحتقان والكراهية وتأجيج جذوة الصراع داخل المجتمع، وليكن الفيصل والبقاء للمعارضة البناءة المعطاء لكل ما يهدف إلى الخير للوطن : تضاريس وبشرًا.
وفى محاولة لشرح وتقنين أبعاد الحرية الملتزمة والمهذبة؛ نستشهد بلقطة رائعة بين سيدنا موسى ورب العزة بالحديث الذى دار فى الوادى المقدس بعدما وجد موسى على النار هُدى .. بسم الله الرحمن الرحيم «فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى، إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى» صدق الله العظيم ـ طه 12 ـ11؛ وهُنا أراد الله أن يعلمنا كيف تكون الحرية الملتزمة مع الأدب، وعدم استغلال منحه الحرية فى التخاطب ليكون كليم الله؛ حتى ينسى نفسه وبشريته ولا يلتزم بالحدود التى منحه الله إياها؛ وليعلم أن الحرية لها حدود وسقف والتزام أدبى وأخلاقى.
هذه دعوة لنا جميعًا لاحترام المعايير الأخلاقية فى استخدام حق حرية الرأى والتعبير؛ دون قهر أو دكتاتورية، ولتكن القوانين هى الحكم والفيصل؛ ليظل ميثاق الشرف هو المعيار.