الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

هاملتون جب.. المفكر البريطانى الذى استهواه سحر الشرق

هاملتون جب..  المفكر البريطانى الذى استهواه سحر الشرق
هاملتون جب.. المفكر البريطانى الذى استهواه سحر الشرق




يعد المستشرق هاملتون جب  «1895-  1971»  أبرز ممثلى الاستشراق البريطانى فى القرن العشرين؛ فهو أقرب المستشرقين البريطانيين إلى الشرق، حيث ولد فى أرض عربية هى الإسكندرية لأب اسكتلندى هو ألكسندر كراوفورد جب الذى كان مديراً زراعيا لشركة أبو قير لاستصلاح الدلتا.

وكان من بين ما استهواه منذ صغره ما أسماه “ الشدو العذب لمرتلى القرآن الكريم” ، وكان لذلك أثره البارز فى توجهه نحو الدراسات العربية.  وكان  جب عضواً مؤسساً فى المجامع العلمية العربية فى القرن العشرين، وله صداقات مع رجال الفكر والسياسة العرب، حيث تتلمذ عدد منهم على يديه وتبوأوا مواقع بارزة فى ميادين متنوعة فى الشرق والغرب . ونجم عن ذلك أن أسهمت أفكاره وأبحاثه فى تطويرالفهم الغربى فى دراسة التراث العربى والإسلامى . وكان جب مرجعا مرموقا فى أربعة حقول: اللغة والأدب العربى ،والإسلام، والتاريخ الإسلامى، والنظم الإسلامية. وقدم الباحث والأكاديمى العراقى ناصر عبدالرزاق الملا جاسم فى كتابه الصادر حديثا تحت عنوان «الاستشراق البريطانى فى القرن العشرين» عن دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة تحليلا لأفكاره وآرائه على ضوء تقسيمات المقررات الأكاديمية المعاصرة . وقد التحق «جب» بالمدرسة الملكية العليا فى أدنبرة ومكث فيها حتى عام 1912 ، وكانت هذه المدرسة تستهدف إعداد البريطانيين القادمين من بيوت متواضعة للعمل فى أرجاء الإمبراطورية الواسعة ، سواء فى أجهزة إدارة هذه الإمبراطورية أو فى عالم تجارتها الفسيح، وذلك عبر خلق وعى بالحكم الاستعمارى لشعوب نائية وبطرق التجارة التى تربط بين الأقطار والقارات المختلفة وبتنوعية المجتمع البشري. وقد استقر فى لندن والتحق بمدرسة الدراسات الشرقية  والإفريقية عام 1919 للحصول على درجة الماجستير فى الآداب فى اللغة العربية. وقد عمل جب مساعداً للمستشرق توماس أرنولد فى قسم اللغة العربية وقد خلفه فى كرسى العربية عام 1930. وكان أول أعماله البحثية عن الفتوحات العربية فى آسيا الوسطى « منطقة ما وراء النهر» وهى منطقة ذات أهمية حيوية للغاية للمصالح البريطانية ، فهى تطل على منطقة الحدود الشمالية الغربية الهندية التى كانت مصدر اضطرابات للحكومة البريطانية فى الهند بسبب وعورة أراضيها وتمرد سكانها القبليين المتواصل.وقد تعاظمت أهمية هذه المنطقة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى حينما ظهر حزب قوى فى أفغانستان يدعو إلى الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية وإعلان الجهاد ضد بريطانيا . وظهرت هناك إمكانية نقل القتال إلى الهند نفسها عن طريق إثارة المسلمين الهنود ودفعهم إلى الثورة ضد الإنجليز، لكن أمير أفغانستان آثر أن يتمسك بعلاقته بالبريطانيين قانعاً بالمساعدة المالية التى كان يتلقاها منهم.
وتضمنت الدراسة مسحا جغرافيا لبلاد ما وراء النهر وقد استعرض الصراع العسكرى بين الأمراء العربى ومعسكر أمراء المنطقة لأكثر من قرن من الزمن  ، وأفرد لكل شخصية الحيز الذى تستحقه ضمن دورها فى عملية الفتح فيفرد لعبد الله ابن عامر بضعة أسطر ، بينما يخص قتيبة بن مسلم بفصل مستقل يغطى نحو ثلث كتابه. ويرى جب أن انتصارات قتيبة يقاسمه إياها عقل الحجاج وعبقريته، كما سهلته الأوضاع المضطربة التى عاشتها المنطقة بعد تخلى الصين عن الدفاع عنها ، وعدم مواجهة قتيبة للقبائل البدوية التركية القوية.
كما أنجز جب «مقدمة فى الأدب العربي» وقد اهتم بالدرجة الأولى بالبناء اللغوى للأعمال الأدبية يدرسها  وشدد على دور الفاتحين العرب فى صهر أبناء الشعوب الأخرى فى وحدة من الفكر والمعتقد وإسهام هؤلاء فى بناء صرح الحضارة العربية والإسلامية.وقد أشاد بالشعر الجاهلى من حيث التعقيد والإحكام الذى اشتملت عليه الأوزان الشعرية ، لكنه تجاهل النثر العربى قبل الإسلام .  وجعل أبا تمام ممثلا للاتجاه التقليدى فى الشعر العربى وإهماله البحترى وتفضيل أبى نواس عليهما حتى مجيء المتنبي. كما قدم صورة أكثر اعتدالا للرسول صلى الله عليه وسلم مما قدمه الاستشراق الإنجليزى حتى عصره ، فيشير إلى غياب دراسة إنجليزية مرضية لسيرته وبذلك يتجاهل عامداً دراسة المستشرق ماركوليوث الشهيرة “ محمد وظهور الإسلام” التى نضحت بروح العداء لنبينا الكريم.كما يرى جب أن فن المقامة يمثل أوج ما بلغه العرب فى أغراضهم الأدبية.ويرى جب أن شهرة المنفلوطى تستند إلى أسلوبه أكثر مما تعزى إلى مضمون مقالاته . ويرى فى الغزالى الرجل الذى أعاد التوازن إلى الفكر الإسلامى وصالح بين التصوف والفكر الفقهي.
واستقصى جب فى كتابه “ وجهة الإسلام” أثر الغرب على الإسلام بوصفه دينا على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمسلمين، فيرى أن الإسلام هو محور حياة المسلمين ، وهو ليس مجرد عقيدة وعبادة ، لكنه مدنية كاملة ربطت شعوباً مختلفة بآصرة قوية هى وحدة الثقافة ووحدة التشريع وانتقد جب سلوك الحركات التبشيرية من أجل إضعاف صلة المسلمين بدينهم وتقاليدهم .كما أشاد بجهود الإمام محمد عبده وتلاميذه من بعده فى التوفيق بين الإسلام والفكر الحديث واتفاق الإسلام مع نتائج البحث العلمي.كما ثمن جهود المصلح الهندى سير سيد أحمد خان الذى قاد حركة الإصلاح الدينى المتمثل فى الكلية الإسلامية الإنجليزية الشرقية فى مدينة «عليكرة».كما تنبأ للإسلام القيام بدور يلعبه فى الحضارة الإنسانية كقوة تُوازن ما أحدثته كل من القومية الأوروبية والشيوعية الروسية من فوضى.
كما ترجم جب ثلاثة أجزاء من رحلة ابن بطوطة ولم تسعفه الحياة لاستكمالها ولدى جب ثقة كبيرة بروايات ابن بطوطة ، ويرى أن كتابه صورة صادقة عن نفسه بكل فضائلها ونواقصها، وقدم معلومات إضافية ساهمت فى إكمال الصورة التى كان قدمها ماركو بولو . كما أضفى على شخصياته وعصره لمسة تبعث فيه الحياة من جديد.كما ترجم جب مقتطفات من كتاب « ذيل تاريخ دمشق» للمؤرخ الدمشقى حمزة بن أسد المعروف بابن القلانسى ، حيث أضاء ابن القلانسى جوانب لم تستطع المصادر الغربية عن الحروب الصليبية أن تضعها ضمن دائرة اهتماماتها، ورصد رد الفعل الإسلامى على المؤثر الغربى ،المتمثل هذه المرة فى الحروب الصليبية. وصور جب الصليبين أساتذة فى فن الحرب لا طلاباً ،حيث تعلم المسلمون منهم الكثير ، ولاسيما ما أدخلوه من تحسينات فى أساليب الحصار، وفى الدروع الضخمة، وفى حملات الشتاء.
ويرى جب فى بحثه عن ابن خلدون أنه أصبح ظاهرة استثنائية فى العقل الأوروبى، وهناك مستشرقون وفلاسفة وعلماء اجتماع فهم كل منهم ابن خلدون انطلاقا من تصوراته الشخصية، وجره إلى حقله المعرفى الخاص ، فتحول ابن خلدون إلى مفكر معاصر انقطعت صلته إلى حد كبير بابن خلدون الحقيقى ، وقد صوُّب جب هذا الانحراف من خلال البرهنة بأن هذا المؤرخ لم يكن سوى نتاج ثقافته العربية الإسلامية، وأن ما قدمه من أفكار هو امتداد لمعطيات من سبقه من العلماء المسلمين.
ويخلص الملا جاسم أن جب أوفر المستشرقين حظا فى نقل أعماله إلى العربية بسبب حرصه على مخاطبة القارئ العربي،وهو موقف يفتقر إليه مستشرقون كثر جعلوا همهم مخاطبة بنى جلدتهم، دون أن تثيرهم مسألة التلقى الإسلامى لكتاباتهم من أبرز الباحثين الذين ترجموا أعماله للعربية  إحسان عباس، وعادل العوا، ومحمد عبدالهادى أبو ريدة.