الخميس 25 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
جيوفانى تيبولو مثال الفن الفينيسى

جيوفانى تيبولو مثال الفن الفينيسى

لعله أحيانًا من الصعب أن نقوم بتأطير فنان كبير له بصمة عالمية تعدت حدود الزمان والمكان لأنه فى الغالب يكون قد تحول وتطور عدة مرات وجرت تحولاته فى مراحل مدروسة لمواكبة ما يسند إليه وخصوصا إن كان من فنانى المناسبات أو دعنا نقول من فنانى المهام أى أن معظم أعمالة تكليفات أسندت إليه فهو من ثم لابد وأن يتخذ لكل مناسبة فكرة وأسلوب يتماشى مع مهمته الفنية بل وفى الغالب تكون فكرته ذات رؤية درامية والحقيقة أن هذا الكلام ينطبق على الرائد الفينيسى الشهير جيوفانى باتيستا تيبولو والذى أجج أوروبا فى القرن السابع عشر والثامن عشر بحمية فنه الذى يعرف على أقل تقدير بأنه فن لا يعرف النقد طريقه إليه لذا فإن كل من طرق باب تيبولو عامله بشكل توصيفى بحت أمثال مايكل ليفى وغيره من الكثيرين بل ولعل الناقد أزوالدو روسينى كان أصدقهم حين قال : لا أستطيع أن أقارن ما لدى من فكر وعلم بما تركة تيبولو من أعمال عظيمة فكل ما أستطيع أن أقوله أن تيبولو فنان من طينة عبقرية لا نستطيع مقارنته بفنان آخر ولا حتى دافنشى.  الحقيقة أن قول أزوالدو روسينى يحتمل الكثير من الصواب فيما عدا وضعه تيبولو فى مرتبة أعلى من دافنشى ومع أنه ترك لنا ميراثًا غزيرًا من الأعمال العظيمة إلا أن عظمة نظريات دافنشى قد تفوق عبقرية ما تركه تيبولو أحيانًا، لكن تظل القضية مطروحة وهى لماذا نخطئ كثيرا إذا حاولنا تأطير فن تيبولو ووضعه فى إطار مدرسى أو ضمن جماعة زمنية؟  بداية نستطيع أن نشير إلى أن القضية أثيرت بشكل كبير حتى الأسبوع الماضى وفى مناسبة مهمة – بحضور كاتب هذه السطور – وحيث وضعت بلدية فينيسيا للعرض أكثر من سبعة أعمال لتيبولو كانت محجوبة عن الجماهير لأسباب كثيره منها تردى حالة بعض اللوحات ما استدعى تشكيل لجنة عالمية لترميم هذه اللوحات واستغرق ترميمها ثلاث سنوات كاملة من بينها نسخة من لوحته الشهيرة نبتون يقدم هداياه إلى البندقية والتى نفذها بقصر الدوق أشهر معالم فينيسيا – بلاتزيو دوكالى – وكانت النسخة التى تم ترميمها قد نسبها البعض لابنه الرسام أيضًا دومينكو تيبولو لكنه بعد الحرب العالمية الثانية فصل فيها أحد مؤرخى أعمال تيبولو وهو ألدو ريتزى وأكد بما لايقطع الشك أن الإمضاء الموجود على اللوحة والذى كان قد اختفى فى محاولة سابقة للترميم هو إمضاء تيبولو نفسه, كما أنه استخرج وثيقة من مكتبة الوثائق فى ميلانو عبارة عن رسالة لجوفانى بياتزيتا أحد معاصرى تيبولو وزميله فى نفس الوقت يؤكد فيها أنه رأى النسخة التى أنجزها تيبولو للعمل بل هو أيضًا يشك أنها هى المخطط الأصلى للوحة الموجودة على حوائط قصر الدوق. لعل فى هذه المناسبة عاد النقاش حول تأطير تيبولو لدائرة الضوء والحقيقة أن من الظلم بل والافتراء أن نتبع السواد الأعظم من النقاد الذى يصنف تيبولو كأحد فنانى الروكوكو وهذا بالطبع افتراء لأن تيبولو يجمع فى تنقيات موضوعاته وأخيلته الرينيسانس المتأخر والباروك وفيما عدا تطويره فى تنوع الباليته اللونية والتى وصل بها لحد هائل من التعدد فيما عدا ذلك يظل تيبولو من رواد الباروك المتأخر ولامانع من أن نجعله أحد إرهاصات وينابيع الروكوكو وخصوصا فى عمله الضخم الذى نفذه فى قصر كبير أساقفة فورتسبورغ الشهير وهذا يجعلنا نقول أن السبب الأقوى الذى يجعل النقاد يصرون على ضم تيبولو لجمهرة فنانى عصر الروكوكو هو ازدحام المشهد التشكيلى فى أعماله وتعدد الشخصيات بل وتنوع الأجناس وهذا والحق يقال من صميم سمات الروكوكو حتى أننا لا نجد غضاضة فى وصف الروكوكو بأنه عصر زادت فيه الزخارف والحليات واستعراض التقنيات على المضمون ذاته وهذا ينسحب على كل فنون عصر الباروك وهذا أيضًا ما يفسر أن الموسيقى الكلاسيكية التى نستمع إليها ونحبها فى روادها من موتسارت وبيتهوفن وليست وغيرهم كثيرين كان سبب رواجها هى العودة لصفاء ما قبل الروكوكو والتخلى عن هذا الافتعال فى الحليات التى ملأت النوته فى هذا العصر. إذن لسنا من مصدقى أن تيبولو كان من رواد الروكوكو – وهذا ما طرحناه فى ندوة تدشين الأعمال الجديدة فى الأسبوع الماضى فى فينيسيا – ولعلنا فى عرضنا لبعض النقاط النقدية المهمة فى أعمال تيبولو نسوق بها الدلائل على هذا الرأى والنقطة الأولى هى أن تيبولو لم يتبع فى الأساس التصنيف الذى يقسم القرون الأربعة بعد القرن الرابع عشر الميلادى لعصر نهضة ينقسم لثلاث فترات رينيسانس وباروك وروكوكو وهذا لا يميز تيبولو فقط كحالة خاصة بل يميز الأقليم الذى ولد وعاش وتربى فيه تيبولو وهو أقليم فينيسيا – البندقية – والتى لم تتبع سائر حواضر إيطاليا فى تراتبية الفن وعمليات تحوله من عصر لعصر بل ولم تتبع أى أقليم من أقاليم أوروبا فلقد كانت فينيسيا حتى القرن التاسع عشر أقليمًا منفصلًا بشكل شبه تام عن إيطاليا وذلك لأنها كانت مدينة تجارية لأوروبا بل وقلب أوروبا التجارى الذى ربط الشرق بالغرب فى هذه الحقبة الخلابة بل وما نجده من فن فى فينيسيا يجعلنا نؤكد أن ما من إقليم فى العالم بعد الأندلس قد تأثر هذا التأثر بالشرق غير فينيسيا والتى وصل بها عظيم التأثر أن تضع العرب والعثمانيين فى مشاهد وقورة على أشهر مبانيها الدينية ألا وهى كنيسة سان مارك قلب فينيسيا بحيث نرى الأفرسكات التى تزين الجبهات المعقودة فى أشهر كاتدرائيات العالم تضم تلك الوجوه العربية والعثمانية فى مشاهد التحكيم والتجارة ونحن نؤكد أن ما من نص تاريخى ينصف الشرق أكثر من هذه الأعمال التى تعج بها فينيسيا، إذن فإن تيبولو كفنان فينيسى نشأ فى عالم مغاير وبعيد تمام البعد عن الفن الإيطالى المصنف بل ونستطيع أن نؤكد للقارئ العزيز أن الفن فى البندقية أو مدينة فينيسيا هو فن أقليمى خالص ويجدر بنا أن نطلق عليه كما عند الكثير من مؤرخى الفن – الفن الفينيسى Venetian Art   – وهذا هو تمام الإنصاف لهذه الحاضرة العجيبة التى ظهرت فيها فنون وأساليب وصناعات تميزت بها عن كل حواضر إيطاليا. إذن فإن تيبولو فنان إيطالى على الوجه العام لكنه فنان فينيسيا يتبع الأسلوب الفينيسى مع اتصال طبيعى بالفن الأوروبى وهذا ما يفسر لنا أن الكثير من النقاد يعتبرون تيبولو رجل الساعة فى أوروبا فى وقته على حد تعبير مايكل ليفى والسبب فى ذلك أن شهرة تيبولو التى حققها من أعماله الضخمة وهو فى سن صغيرة نسبيًا فى أماكن كبيرة مثل قصر الدوق جوفانى كورنارو الثانى حاكم فينيسيا جعلت شهرته تطير إلى حواضر أوروبية كثيرة وكبيرة مثل ألمانيا وهذا ما دفع كبير أساقفة فورتسبورج كارل فيليب جريفينكلو أن يسند إليه عام 1750 تنفيذ أعمال فنية فى مقر إقامته والذى لازال أشهر قصور هذه المنطقة الألمانية وباعتبارها أكبر الأقاليم الكاثوليكية فى ألمانيا البروتوستانتية، لقد أبهر تيبولو العالم بهذا العمل الذى يعتبر من أضخم أعمال الأفرسكو المرسومة على السقف فى تاريخ الفن بل ويضاهى أعمال مايكل أنجلو فى مصلى سيستنا على الرغم من موضوعه الدنيوى وهذه نقطة أخرى تفسر لنا أيضا خروج تيبولو عن الإطار فهو من بلد يقود أكبر رايات الكاثوليكية فى العالم وهو يقوم بتنفيذ عمل فنى لكبير أساقفة فورتسبورج ومع ذلك يختار موضوعا دنيوى بحت بل وأسطوريا وثنيا أيضا حيث اختار لهذا الأفرسك السقفى أبوللو آله الشمس عند الإغريق – فوبوس - فى رحلته اليومية حيث يقود عربة الشمس فوق كل الأقاليم فى العالم ويصور هنا بحرفية الوجوه الشرقية التى كانت تتردد على فينيسيا للتجارة وغيرها من الأمور والتى لم نعرف لها مثيلا فى الفن الأوروبى قبل فنانى فينيسيا. بلغت مساحة اللوحة السقفية التى نفذها أبوللو فى قصر كبير أساقفة فورتسبورج 677 مترًا مربعًا وهى مساحة اعجازية فى التنفيذ كما يقول رولاند جرين وحيث أنجزها فى ثلاث سنوات فقط بين 1750 و1753. بعد أن طارت شهرة أعمال قصر فورتسبورج عبر أوروبا كلها وبعد أن عين تيبولو رئيسا لأكاديمية بادوا اختاره شارلز الثالث ملك إسبانيا لتنفيذ أعمال الرسم فى حجرة العرش وهذا يوصف على أقل تقدير بأنه علامة على تفوق تيبولو على كل معاصريه بل ويصفه الكتاب الإسبان انه ختيار فيه عظيم الشرف ليتبولو بحيث اختير من قبل الملك نفسه ليزين عرينه أى صالة العرش. ولا تقل أعماله فى صالة العرش بقصر الملك تشارلز فى مدريد أهمية وشهرة وإتقان عن أعماله فى قصر فورتسبورج حيث نفذ لوحته الشهيرة مجد إسبانيا والتى صور فيها إسبانيا وكأنها أحد ربات الأساطير. استغرق عمله فى قصر مدريد فترة طويلة حتى أنه مات فى عام 1770 قبل أن يضع الرتوش الأخيرة له وأكمله ابنه ومساعدوه ومع أن البعض يؤكد أن تيبولو أكمل عمله قبل أن يموت فى مدريد لكن هذا بالتحديد غير مؤكد لأنه لو كان قد أتمه كما يجب كان قد رحل إلى فينيسيا قبل أن توافيه المنية فى مدريد. ولد جيوفانى باتيستا تيبولو فى فينيسيا عام 1696 لأب يعمل بنقل البضائع تركه وهو صغير قبل تعميده ومن ثم عمد لأحد رجال الأسر العريقة فى فينيسيا وتتلمذ على يد جورجيو لاتزارينى أحد أشهر رسامى فينيسيا فى هذه الفترة وأخذ عنه الكثير من تقنياته وحصل على عضوية نقابة الرسامين – نقابة سان لوكا – أو الفراجيليا فى سن صغير عام 1717 وكان مثالا مميزا على الأسلوب الفينيسي وارهاصة من ارهاصات الروكوكو والكلاسيكية الجديدة.