الإثنين 9 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الوقاد

وثائق ونصوص شاهدة على من أضاء شوارع القاهرة

إذا كنت من محبى الحكايات التاريخية فما عليك إلا أن تسير فى شوارع القاهرة لتجد ألف حكاية وحكاية، محفورة على جدران البيوت والمنشأت التاريخية والأثرية، وساكنة فى المتاحف التى تحوى بين جنباتها ألاف القطع الأثرية الباقية شاهدة على حكايات أبطالها أشخاص، قد نكون على علم بأسماء بعضهم وأخرين لا نعرف إلا ذكراهم فقط ومن هؤلاء الوَقَّاد، وهو الشخص الذى كان مسئولا عن وسائل الإضاءة فى العصر المملوكي، والذى بقيت ذكراه من خلال الشواهد الأثرية والوثائق التاريخية..هى إذا حكاية تاريخية تستحق أن نرويها لنتعرف من خلالها على كثير من الكنوز التى تحويها أثارنا، وذلك عبر رحلة بين جنبات التاريخ صاحبنا فيه د.عبد الحميد عبد السلام أبوعليو مدير إدارة التدريب والنشر العلمى بمُتحف الفن الإسلامى بالقاهرة، والذى أجرى بحثا كشف من خلاله عدد من الحقائق التاريخية المهمة والمثيرة..إلى تحقيقنا.



فى البداية كشف أبو عليو أنه تكمن أهمية هذه الوظيفة فى أن صاحبها يحمل على عاتقة مسئولية وسائل الإضاءة الصناعية على إختلافها وتنوعها، كالمشكاوات والتنانير والثريات والفوانيس والمسارج والشماعد، بل ربما يقع على عاتقه أيضاً إشعال النار الخارجة من الفنار لإهداء السفن ليلاً وإنارة الشوارع، ورغم ذكر هذه الوظيفة فى الوثائق والمصادر التاريخية بما يؤكد أهميتها البالغة، إلا أنه لم تُخصص دراسة أثرية للتحف الفنية التى تعكس هذه الوظيفة، حيث يأتى البحث الذى أجريته للكشف عن الوَقَّاد ومكانته فى العصر المملوكي، مما يعد إضافة جديدة تُثرى الحياة الاجتماعية  المملوكية وتضيف إليها معلومات جديدة، خاصة أن عددا من الوثائق المملوكية تناولت ذكر الوَقَّاد باعتباره أحد الوظائف المهمة، من خلال أوقاف سلاطين الدولة المملوكية،  والوثائق الخاصة بهم.

البداية رنوك مملوكية

وبدأ أبو عليو توثيقه لمهنة الوقاد بداية من الرنوك، حيث تُعتبر الرنوك المملوكية واحدة من أهم وأكثر العناصر الزخرفية المميزة لفنونهم على الإطلاق، والرنك كلمة فارسية تنطق (رنچ) وتعنى اللون، وأستخدمت للدلالة على الشارة أو الشعار الشخصى الذى اتخذه الحاكم أو السلطان لنفسه، أو للدلالة على الوظيفة التى كان يشغلها الأمير فى البلاط السلطاني، وقد جرت العادة عند تأمير المملوك»أى جعله أميرا «أن يُعطى رنكاً أو شعاراً يُشير إلى وظيفته. ويتألف الرنك عادة من منطقة واحدة قد تكون مربعة أو بيضاوية أو كمثرية الشكل،  وقد تنتهى أحياناً من أسفل بطرف مدبب يشبه الدرع،  وإن كان الشكل المستدير هو الأكثر شيوعاً واستخداماً على التحف والعمائر التى وصلتنا من العصر المملوكي،  وهو ينقسم عادة إلى منطقتين أو ثلاث مناطق أفقية،  أكبرها عادة أوسطها،  وتسمى كل منطقة منها شطب،  أو مشطب،  أو شطف،  أو شطا، ونستطيع أن نميز بين عدة أنواع منها مثل الدروع اوالخراطيش التى عرفت باسم الرنوك الكتابية وكانت قاصرة على السلاطين من دون الأمراء, والرنوك الشخصية الخاص ببعض السلاطين, والرنوك الوظيفية البسيطة والمركبة التى تُشير الى الوظائف التى كان يشغلها الأمراء فى البلاط السلطانى والتى قلما خلت منها تحفة من التحف الفنية فى العصر المملوكى. ما سبق يطرح سؤالاً مهماً..إن كانت الرنوك فى العصر المملوكى من أهم ملامح العصر، فلماذا لم يكن هُناك رنوك وظيفية  تُشير إلى وظيفة الوَقَّاد؟، هنا يجيب أبو عليو قائلا: فى الحقيقة أتت الإجابة على هذا التساؤل صدفة، فمن خلال عملى كأمين آثارى بمُتحف الفن الإسلامى بالقاهرة، فقد وقعت عينى قَدراً – صدفة- على هذه التحفة،  ولفت نظرى وجود رنك لم يسبق للباحث رؤيته من قبل، وبتناول المراجع المُختلفة التى تناولت الحديث عن الرنوك فى العصر المملوكى وجدتها تخلو من الحديث عن هذه الوظيفة المُتعلقة بالوَقَّاد أو مسؤل الإضاءة فى العصر المملوكى. وقد تعددت المسميات الخاصة بوظيفة الوَقَّاد فى العصر المملوكى من إقليم لأخر من أقاليم العالم الإسلامي، ففى مصر أُطلق عليه لفظ الوقاد نسبة لإيقاد وإنارة المصابيح، أو زَيَّات نسبة لتعميرها بالزيت، وقد استقرت الدراسة على مسمى الوَقَّاد لهذه الوظيفة لأنه الاسم الذى تم نعته به فى مصر المملوكية، أما فى بلاد الروم – آسيا الصغرى- فى العصر السلجوقى فأطلق عليهم جَرَّاجيون أو جَرَّاغجيون نسبة للسراج،  وهى كلمة فارسية تعنى المصباح،  والتى اتخذ وقادى الشام تسميتهم منها،  سَرَّاج دون تغير،  أما فى العراق فأطلق عليهم قِنديلَّجيون ومفردها قِنديلَّجى نسبة للقنديل و»الجي» فى هذه الكلمة هى نهاية تصاحب الكلمات التركية لتدل على صاحب المهنة. وكشف أبو عليو أنه كان يشترط فى الوَقَّاد أن يكون من أهل الخير والديانة والعفة والأمانة لكيلا يتصرف فيما يوكل إليه من مشكاوات وقرايات،  ومن الزيت الخاص بإيقادها،  ويكون أميناً فى تعميرها بالزيت بالقدر اللازم لها دون نقصان عن الكمية المحددة لها،  وأن يكون من أهل الثقة والجودة،  وأن يكون قوياً نشيطاً قادراً على العمل خبيراً بمهنته،  ويقوم ناظر المسجد أو المنشأة بأختيار الوَقَّاد الذى يشغل هذه الوظيفة ،  ومن أعمال الوَقَّاد أنه يتولى تعليق المشكاوات والتنانير بسلاسل من المعدن أو بحبال غليظة،  ويقوم بإيقاد قراياتها وبزاقاتها فى كل يوم من غروب الشمس إلى ما بعد صلاة العشاء وإطفاءها بعد ذلك،  وأحياناً كان يترك بعضها مضاءاُ للصباح سواء داخل المنشأة أو خارجها – ببابها الرئيسى من الداخل أو الخارج- وببعض ملاحقها كالقبة والمئذنة والميضأة والسبيل.

الصِناج والغبار والزيت

ومع استمرار إضاءة تلك المشكاوات وغيرها من المصابيح فإن الصِناج والغبار يُغير من شكلها وتتسخ هيئتها فكان الوَقَّاد يقوم بغسلها،  وتعميرها بالزيت ثم مسحها بعد التعمير وتلميعها،  وهذه الأعمال تزداد ويكثر الاعتناء بها فى ليلة أول رجب وليلة السابع والعشرين منه،  وليلة النصف من شعبان،  وطوال ليالى شهر رمضان،  وبالتالى يتضاعف المجهود للوَقَّاد الأمر الذى لم يكن غائباً عن أرباب هذه المنشأة حيث كانوا يُوَّسعون على موظفين المنشأة فى هذه الأيام بالإضافة للعيدين،  وذلك بالمال أو الجراية – الخبز- واللحوم وغيرها،  بل وبلغ الاهتمام بالوقاد أن واقف المنشأة كان يوفر له سكناً خاصاً به،  يأوى إليه بعد الفراغ من عمله،  ومن هذه المنشأت منشأة السلطان قايتباى بالقرافة،  ومنشأة قانى باى بالناصرية والرميلة.   وكان الوَقَّاد يستعين فى أعماله بأدوات خاصة به فكان يقوم بإشعال ذبالة – قمة الفتيل – القراية أو البزاقة الموضوعة فى المشكاة أو التنور بأداة تسمى « حَرَّاق « دون الحاجة إلى إنزالها من أماكن تعليقها،  وهى عبارة عن عصا طويلة تشبت بأعلاها فتائل من الكتان أو القطن وفى بعض الأحيان من القماش الممشط  المشبع بالزيت لتظل مشتعلة طيلة فترة إيقادة لذبالات المصابيح،  كذلك يقوم الوقاد بإصلاح ذبالة القراية إذا أحتاج الأمر لذلك،  كذلك كان الوَقَّاد يستخدم مكيال أو كوز من الحديد تختلف سعته باختلاف كمية الزيت المحددة لذلك،  والتى تخضع للمدة التى ستستغرقها القراية وهى مشتعلة.

30 درهم راتبه

وبالتأكيد لم يكن يعمل الوقاد مجانا، حيث كان يتقاضى راتبًا عن وظيفته أول كل شهر عربى سواء كان شهرًا ناقصًا أو مكتملاً،  وهو ما يدل على أن الوَقَّاد لم يكن يعمل باليومية بل كان موظفًا يختلف مرتبه حسب المهام المسندة إليه،  وحسب ضخامة المنشأة وكثرة ما بها من وسائل إضاءة،  بالإضافة لما معه من زملاء لتقسيم العمل فيما بينهم،  ولم يكن راتب الوَقَّاد ثابتًا بل كان يتأثر من حيث الزيادة أو النقصان حسب الحالة الاقتصادية للبلاد وارتفاع الأسعار فيها الذى يتبعه زيادة فى الرواتب لمجابهة ارتفاع مستوى المعيشة.  وقد كانت وظيفة الوَقَّاد من الوظائف المهمة التى حرصت معظم الوثائق المملوكية على ذكرها،  حيث أشارت هذه الوثائق إلى أسماء بعض الوَقَّادين،  ورواتبهم،  ودورهم الوظيفي، حيث أن وثيقة وقف الأمير صرغتمش القرن 8هـ/ 14م اشتملت نصوصها فيما بينها على رواتب أرباب الوظائف المختلفة فى مدرسة الأمير صرغتمش التى شيدها سنة ( 757هـ/1356م)،  ومن بين هؤلاء الموظفين الوَقَّادين،  حيث أوقف عليها وَقَّادين لكل واحد منهم 30 درهم نقرة فى الشهر. ويذكر الدكتور عبد اللطيف إبراهيم أن وظيفة الوَقَّاد من الوظائف الرئيسة فى العمائر الدينية والاجتماعية المختلفة فى العصر المملوكي،  وتحدثت كثير من الوثائق العربية عن مهمة الوَقَّاد وأخلاقه وصفاته،  وتشترط فيه أن يكون ثقةً أمينًا قويًا قادرًا على العمل، وهناك أيضا وثيقة وقف السلطان قايتباى ( 872- 901هـ/ 1467-1495م) على المدرسة الأشرفية وقاعة السلاح بدمياط، وتضمنت إشارة للوَقَّادين بالمدرسة الأشرفية أنه يصرف للوَقَّاد بالجامع مأتى درهم، وحددت الوثيقة أن من مهامه القيام بتلميع المصابيح،  وغسل القناديل وسلاسلها،  وتعميرها بالزيت. ليس هذا فقط، حيث لم تخل النصوص التأسيسية فى العصر المملوكى من ذكر اسم الوَقَّاد ولقبه، وخير مثال على ذلك ما نجده مدون على المزولة الموجودة بجامع المؤيد شيخ المحمودى ( 818-823هـ/ 1415- 1420م) بما نصه»عمل هذه المزولة محمد الوقاد الموقت بالجامع المؤيدى سنة 845هـ/ 1441م»، وهو نفسه المشرف على تحديد الأوقات والمواعيد بالجامع المؤيدي،  ولذلك عُرف بالموقت،  وربما يكون قد جمع بين أكثر من وظيفة فى نفس الوقت،  أو ربما يُشير لقب الوَقَّاد هنا الى عائلة الصانع نفسه. كذلك بالنظر لرسوم وتصاوير المستشرقين خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، نجد أنهم قاموا برسم الوَقَّاد داخل المنشأت المملوكية، ومنها ما قام به الفنان الأسبانى (Antonio Fabres y Costa) برسم للوَقَّاد فى العصر المملوكى عند قيامه بمهام وظيفته أثناء تعبئة القَرَّايات أو البَزَّاقات داخل ثرية من النحاس، ووهناك رسم للوَقَّاد داخل مدرسة السلطان قايتباى قام بعملها  الفنان النمساوى (Ludwig Deutsch) فى آواخر القرن (13هـ/ 19م)،  ويظهر بها رسم لأحد الوقادين صاعداً فوق سلم خشبى صغير ويقوم بتعمير البَزَّاقة بالزيت تمهيدًا لوضعها داخل إحدى الثريات.