الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
التفاصيل الكاملة لمفاوضات ما وراء السد!

حق المصريين فى الحياة أمر بديهى لا يجوز أن يخضع للتفاوض أو المساومات

التفاصيل الكاملة لمفاوضات ما وراء السد!

فى غفلة من الزمن، وفِى لحظة انهزام حلت على مصر أطياف الخراب والتخريب الاستراتيجى مرتدية ثياب الثورة المزعومة فى شهر يناير من عام ٢٠١١، قلنا من قبل وسنظل نقول: إن ما حدث آنذاك هو عملية إسقاط شاملة للدولة المصرية وحصارها وتقويضها، ولا تزال الدولة المصرية تعانى الآثار السلبية سياسيًا واجتماعيًا لهذه الجريمة التى لا تقل عما حدث فى نكسة ٦٧ بل تزيد، ما جرى كان بمثابة صدمة سببت شللًا للدولة وانكفاءها داخليًا لفترة من الزمن كانت كفيلة بتمرير العديد من المشروعات والتحركات الهادفة لتقويض أمنها القومى. فى مقدمة الآثار الكارثية، كانت الفرصة الذهبية للهرولة نحو عملية بناء السد الإثيوبى خلسة لفرض الأمر الواقع على مصر التى كانت جريحة. زاد من كارثية الأزمة تصدر المشهد مجموعة من منتحلى صفة النخبة الذين اخترعوا ما يسمى بالدبلوماسية الشعبية وراحوا يلتقون الأطراف الإثيوبية التى قررت بعدها التعامل مع مصر وفقًا للأوزان النسبية السياسية المنعدمة لأعضاء هذا الوفد. ثم استمرت الكارثة بعد الاجتماع السرى المعلن، الذى قاده المتخابر محمد مرسى وهو باكورة إنتاج كارثة يناير!



 

■ ■ ■

التفاوض عملية طويلة المدى، معركة لا صفرية بين طرفين، يسعى كل منهما إلى الوصول إلى أفضل النتائج ودرء الأضرار، وهى عملية قائمة على مرونة الأطراف وقدرتهم على تقديم التنازلات المباحة والممكنة، ولم يسبق للتاريخ أن شهد مفاوضات تتضمن المساومة على الحق فى الحياة أو الحق فى البقاء، وإلا تحول الأمر إلى عملية انتحار دبلوماسى. منذ اللحظة الأولى ومصر تنتهج نهجًا واضحًا يحمل اعترافًا معلنًا بحق إثيوبيا فى التنمية، وهو اعتراف لا تملك إثيوبيا أن تقابله بالاعتراف بحق مصر فى الحياة لأنه حق بديهى خارج حدود التفاوض أو المساومات. وعلى ذلك، فإن مصر قد بدأت التفاوض من نقطة ارتكاز صحيحة ومنطقية ولا يمكن أن يقابل ذلك ارتكاز الطرف الآخر على نقطة ما وراء التفاوض بمجرد اعتقاده أن الحق فى الحياة يدخل ضمن خيارات التفاوض. 

 

■ ■ ■

 

مصر بدأت التفاوض عند خط انطلاق قانونى، بينما يحاول البعض أن يفرض عليها أن تُفاوض على حياة شعبها، كما لو كان بقاؤه على قيد الحياة هو أحد المكاسب المتحققة!! السلوك التفاوضى المصرى بدأ من منطلق الاعتراف بالحق الإثيوبى فى التنمية، وتجاوز ذلك إلى حد الإقرار بحقها فى بناء السد، أملًا فى الوصول إلى اتفاق ملزم يجعل من السد مصدرًا لرخاء إثيوبيا دون أن يكون مصدرًا لتهديد حياة المصريين. مصر اتخذت مسارًا واضحًا من أجل الوصول إلى اتفاق فى مقابل سلوك إثيوبى اتخذ من الرهان على الزمن خيارًا استراتيجيًا، ظنًا أنه يمكن فرض الامر الواقع على مصر، وهنا يكون «الظن كله إثم»، لأن الواقع هنا هو التهديد لحياة المصريين، وهو حق يعلو كل اعتبار، ولم يسبق لمفاوضات أن اتخذت من الموت الاستراتيجى أحد خياراتها المطروحة، لقد كان الهدف المصرى هو الوقوف على أرضية قانونية مشتركة وملزمة، فلا يجوز الانتقال بالتفاوض إلى أرضية سياسية لها حساباتها المعقدة.

 

■ ■ ■

 

منذ انطلاق المفاوضات ومصر مدركة لمعنى التفاوض وهدفه، أى أن الإدراك المصرى كان مرتكزًا على الوصول إلى حلول ترضى كل الأطراف، التزامًا بحقيقة التفاوض القائمة على التفاعل بين الأطراف لتكوين الأرضيات المشتركة، وبالتالى لا يجوز القفز من هذه المساحة المشتركة، كلما وُجِدت إلى مساحة أخرى للبدء من جديد، كما لو كان الإنهاك خيارًا استراتيجيًا، لكن مصر تقابل الرغبة فى الإنهاك بالإصرار على الإنجاز. هنا تظهر الحالة النفسية السياسية لأحد أطراف التفاوض الذى يخطئ عندما يعتقد أن أحد خياراته المطروحة والمشروعة، هو إلحاق الهزيمة الكاملة بالطرف الآخر، أو أن مرونته تعد انهزامًا، وهو أمر معبر عن عدم إدراك للوصف العلمى للمفاوضات التى تتيح تغيير المواقف إذا قُدمت الحجج المقبولة، كما أن التفاوض يقوم أساسًا على الاقتناع بامكانية تعديل الموقف الأصلى لتعظيم قيمة المصالح المشتركة. اللجوء إلى التفاوض يجب أن يكون مبنيًا على إدراك مفهوم علم التفاوض وشروطه وخياراته، وهو الفهم الذى ينعكس على السلوك الظاهر الذى يكشف النوايا الباطنة والتى لا يمكن أن تكون المماطلة أحد خياراتها لأن الدفع فى هذا الاتجاه سيكشف عن قصور فى الفهم العلمى أو السياسى.

 

■ ■ ■

النهج التفاوضى المصرى ارتكز منذ البداية على أن يتم على قاعدة قانونية اتفاقية وبالتالى لا يجوز سحب الموقف وتحويله إلى أزمة وجودية، بأن يُفرض على مصر أن تطرح حقها فى الحياة كأحد بنود التفاوض، وهو أمر مستحيل الحدوث وإلا شاب البطلان كامل العملية التفاوضية لشمولها بندًا غير مشروع. هنا تكمن الأزمة فى الفهم الخاطئ لطبيعة العملية التفاوضية فى الذهنية الإثيوبية، والتى قد تعتقد أنه يمكن أن تخلق معركة قومية يلتف حولها الشعب الإثيوبى، وهو منطق معكوس لأن المعارك القومية تقوم على أساس الحفاظ على الحقوق والمكتسبات وليس على أساس حرمان أطراف أخرى من حقوقها.

 

■ ■ ■

 

أساس أى تفاوض هو التوصل لاتفاق من أجل الالتزام به، وليس من أجل كسب الوقت للضغط على أعصاب أحد الأطراف للأسباب التالية: - إن الاتفاقات تتم بالثقة المتبادلة وبترجمة نوايا الإتمام لواقع عملى وليس من أجل الدفع نحو اليأس. - إن الاعتقاد بأن مصر ستقبل الأمر الواقع هو محض وهم لأنه لا يمكن لأى طرف أن يرضخ لخيار الموت المجانى. - إن من يحاول بناء معركة قومية على حساب الحق المصرى سيجد نفسه قد خلق مشروعًا قوميًا مصريًا أساسه الحق فى حياة الشعب المصرى. - إن مصر لن تدخر أى جهد وأى سبيل للحفاظ على حقوقها المائية. - إن مصر اتجهت إلى علانية التفاوض لإيمانها الراسخ بعدالة قضيتها. - إن لجوء مصر للولايات المتحدة الأمريكية كوسيط هو إصرار على التمسك بالقانون الدولى فى مخالفة رسمية.

 

■ ■ ■

 

من اللحظة الأولى ومصر حريصة على مبدأ شفافية المفاوضات، وبالتالى فإن حركتها التفاوضية ظلت ملتزمة بمحيط المساحة المسموحة لهذا التفاوض، وبذلك لا تجدها قد تحدثت مرة واحدة عن أى تفاصيل متعلقة بالشأن الداخلى الإثيوبى، أما محاولات توريط مصر واستدراجها لمساحات ما وراء السد من تفاصيل إثيوبية وتعقيدات سياسية، للتذرع بأن مصر تتدخل فى الشأن الداخلى من أجل إحداث عملية التفاف قومى حول عدوان مصرى وهمى، واستغلال حالة الشحن كرصيد لدعم الموقف التفاوضى الإثيوبى فى ملف السد لفرض أمر واقع لا يمكن أن يتحقق مبنيًا على افتراض وهمى! وبينما ظلت مصر مدركة بأن التفاوض عملية تفاهم تراكمية نتيجة للجولات المتعددة فحرصت على ضبط النفس والسيطرة على ثباتها الانفعالى الدبلوماسى، فى مقابل تعنت إثيوبى ممنهج وحريص على تشتيت هذا التراكم أولًا بأول، ظنًا أنه يمكن استنزاف رصيد الصبر المصرى وصولًا إلى حالة من اليأس تجعل مصر قابلة للانضغاط والانكماش التفاوضى، وهو تصور يكشف عن قصور فى استيعاب صلابة المفاوض المصرى وخطورة دفعه إلى حافة الهاوية. إذن الشفافية والعلانية والالتزام بمبادئ القانون كانت محاور ارتكاز المفاوض المصرى، الذى اتجه مباشرة نحو إبرام اتفاقية المبادئ عام ٢٠١٥ وهى اتفاقية ملزمة قانونًا وتنص صراحة على عدم البدء فى ملء السد إلا بعد الاتفاق النهائى على كافة النقاط التقنية المتعلقة بحجم المللء وتوقيتاته وحصص الطرفين المصرى والسودانى. واستنادًا لاتفاق ٢٠١٥ فإن إثيوبيا لا يمكنها الامتناع النهائى عن التوقيع على الاتفاق الأخير الذى ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية، والذى وقعت عليه مصر بالأحرف الأولى تأكيدًا على جدية التزاماتها بالقانون الدولى ومساراته المعلنة. وفى ضوء الموقف المصرى المرتكز على قاعدة قانونية صلبة وحاسمة جاء اتصال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالرئيس عبدالفتاح السيسى؛ ليؤكد تقديره للتوقيع المصرى على اتفاق واشنطن باعتباره اتفاقا شاملاً وعادلاً ومتوازنًا، وأن هذا التوقيع دليل دامغ على صدق النوايا المصرية وعلى توفر الإرادة السياسية لدى مصر. الآن ليس هناك أى عائق أمام الاتفاق النهائى سوى توافر قوة الإرادة الإثيوبية بعد أن قدمت مصر كل أوراق ملفها العادل، وراحت دبلوماسيتها تتدفق فى المفاوضات جولة تلو الأخرى، لكن الحقيقة ما وراء هذه المفاوضات أن مصر حتما ستذهب إلى أقصى مداها الاستراتيجى للحفاظ على كل قطرة ماء.