الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الفقراء أحباب الله..

الفقراء أحباب الله..

لو كان الفقر رجلا لقتلته والقتل مباح هنا وليس من الكبائر إذا كان قرين الحرمان والذل.. وهناك مقولة أخرى شائعة تناولت الفقراء بالهدهدة مفادها أن الفقراء أحباب الله! 



هذه مقولة نرددها كثيرًا نحن معشر المصريين؛ ولا ندرى أين ومتى ومن الذى أطلقها من قديم الزمان على أهل هذا البلد الطيب الأمين، القابع فى أحضان التاريخ منذ بدأت سطوره فى كتاب الحياة على هذه الأرض؟

صحيح أن الفقراء هم غالبية أهل الأرض نجاحًا وسماحة وطيبة؛ لأنهم لايملكون سوى عافيتهم للسعى  بالكاد ـ على قوت يومهم؛ ولا يملكون من متاع الأرض سوى اللقمة والهِدمة والسقف الذى يقيهم قيظ الصيف وزمهرير الشتاء. وهذا يعطيهم الوقت الكافى للتحليق عاليًا بأجنحة الأمل فى سماء الأحلام؛ وربما ـ وهذه طبيعة البشر ـ شذرات مما نطلق عليه تطلعات «الحقد النبيل»؛ إلى بعض الرقى فى المعيشة من المأكل والمشرب والتعليم والمكانة المرموقة؛ فيستمتعون بما حباهم الله به من نعمة الأحلام التى قد تعوضهم بعض الشىء عن الواقع الذى يحيط بهم، بل تعطى لهم التبرير الأوفى لمقولة «الإمام على ـ رضى الله عنه ـ: «لو كان الفقر رجلاً.. لقتلته»! 

ودعونى أذكر أمثلة واضحة وجلية لبعض النماذج التى عاصرناها فى جيلنا الحالى، والتحديات التى واجهها هؤلاء الفقراء فى حياتهم منذ نشأتهم الأولى بين أحضان عائلاتهم؛ وكيف فرضوا نجاحاتهم فى مسيرتهم الحياتية المؤلمة؛ ليقطفوا ثمار تعبهم ـ وبسواعدهم ـ نجوم السماء ليطرزوا بها جيد أحلامهم المشروعة.

ولعل أصدق مثال على هذا التحدى؛ هو صاحب اللقب الرفيع «أمير الفقراء» الزعيم جمال عبدالناصر؛ الذى ولد فى 15 يناير 1918 بحى باكوس الشعبى بالإسكندرية، وكان الابن الأكبر لعبد الناصر حسين الذى ولد فى عام 1888 فى قرية بنى مر بصعيد مصر فى أسرة من الفلاحين، ولكنه حصل على قدر من التعليم سمح له بأن يلتحق بوظيفة فى مصلحة البريد بالإسكندرية، وكان مرتبه يكفى بصعوبة لسداد ضرورات الحياة ، فألحق ابنه بروضة الأطفال بمحرم بك بالإسكندرية، ثم التحق بالمدرسة الإبتدائية بالخطاطبه؛ وفى عام 1925 دخل جمال مدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية بالقاهرة، وأقام عند عمه فى حى شعبى لمدة ثلاث سنوات، وكان  يسافر لزيارة أسرته بالخطاطبه فى العطلات المدرسية، وحين وصل فى الإجازة الصيفية فى العام التالى 1926، علم أن والدته قد توفيت قبل ذلك بأسابيع ولم يجد أحد الشجاعة لإبلاغه بوفاتها، ولكنه اكتشف ذلك بنفسه بطريقة هزت كيانه. واستطاع أن يقهر أحزانه والتغلب على مظاهر الفقر من حوله، ليقوم بتكوين وجدانه الثورى مبكرًا؛  ويقوم بقيادة مظاهرات الطلبة التى تهتف بسقوط الاستعمار وبعودة الدستور؛ وليرأس ـ فى مرحلة لاحقة ـ تنظيم الضباط الأحرار الذى صنع ثورة يوليو المجيدة. 

ولنا أيضًا من بلاد المال والأعمال المثال الحى فى المدعوة «أوبرا غايل ونفيرى»؛ وهى أشهر مقدمة برامج حوارية بالتليفزيون الأمريكى، بعد نجاحها فى التمثيل المسرحي، وأشهر شخصية على مواقع التواصل الاجتماعى والصحف والمجلات والقنوات التليفزيونية والإذاعية، فهى  ـ بتصرف ـ  قد ولدت فى  29 يناير 1954وعاشت طفولة فقيرة، فوالدها كان حلاقًا بسيطًا؛ بالإضافة إلى عمله ببعض الأعمال التجارية الصغيرة، والدتها كانت تعمل فى خدمة البيوت، وعاشت عند جدتها فى حى فقير بعد انفصال والديها إلى أن بلغت السادسة من عمرها. وبدأت حياتها مراسلة لإحدى قنوات الراديو وهى فى التاسعة عشر من عمرها، وأكملت تعليمها الجامعى فى ولاية تينيسى من خلال منحة تعليمية حصلت عليها بمثابرتها واجتهادها ، حيث كانت من أوائل الطلاب الأمريكيين من أصل أفريقى فى الجامعة مما سبب لها صعوبات عديدة، انتقلت إلى بالتيمور عام 1976 وبدأت تعمل فى تقديم برنامجها الناجح وأصدرت أحدث كتبها : Live the best of your life، كما أنها تمتلك استوديوهات هاربو وتُصدر مؤسستها مجلة أوبرا واسعة الانتشار.

وسبحان من له ملكوت السموات والأرض؛ فكأنه يضع «جينات التفوق والتحدى» فى أدمغة أبناء الفقراء البسطاء؛ لتكون الحافز والمحرك الرئيس فى شحذ قدرتهم على استيعاب العلوم التى يدرسونها فى المدارس والجامعات؛ فيحصدون المراكز الأولى ويتفوقون على أقرانهم زملاء مقاعد الدرس والتحصيل.  ولعل أصدق الأمثلة التى تدلل على صحة رؤيتى ومشاهداتى؛ هو نتائج أوائل الثانوية العامة، وكان الفخر ـ كل الفخر ـ  أن الفائزة بالمركز الأول العام الماضى بمجموع 99.3% هى ابنة «حارس عقار» تسكن وعائلتها فى حجرة بسيطة أسفل العقار الذى يعمل به والدها، ومن الطريف قولها إنها لاتملك صفحة من صفحات التواصل الاجتماعى، لأنها فوق قدرات والدها المادية والحياتية، وقد تفوقت فى كلية الطب فى عامها الدراسى الأول كذلك. وفاز بالمركز الأول  هذا العام طالب من محافظ أسيوط بمجموع 99.76% ويشرُف بأنه ابن الفلاح الذى يعمل باليومية فى أراضى الملاك الكبار،وكذلك تفوق ابن بائعة أنابيب الغاز الذى كان يساعد والدته دون أدنى خجل. والذى أريد ان أسوقه هنا؛ هو تأكيد أصالة  معدن هؤلاء حين تحدثا عن والديهما بكل الفخر والعزة والكرامة، وإن كانا لم يخفيا خوفهما من عدم التمكن من الالتحاق بالكليات التى يتمنونها وتداعب أحلامهما؛ إشفاقًا على أولياء أمورهما- وغيرهما كثيرون- من المصروفات التى ستتطلبها تلك الكليات وقد تحجب عنهم بسبب الوضع الأسرى والاجتماعى.

وأجدنى من هذا المنطلق؛ أهيب بمؤسسات الدولة التعليمية ومنظمات المجتمع المدنى؛ أن تبادر بتبنِّى هؤلاء الأوائل، والالتزام بالرعاية الكاملة فى مراحل الدراسات القادمة؛ لتحقيق أحلامهم البسيطة والمشروعة، ولنا أن نأخذ بالأسباب فى الحياة الدنيا؛ للحفاظ على استمرارية هذا «الحبل السُّرى» بينهم وبين التفوق، وصيانة وتنمية هذه الهبة الإلهية العظيمة فى عقول أبنائنا.. فنحن جميعًا فقراء إلى الله.. وشكرًا لصاحب مقولة جبر الخواطر: الفقراء أحباب الله! ونردد بتحفز واضح.. لو كان الفقر رجلاً لأجهزنا عليه جميعا وفتكنا به قبل أن يفتك بأخيارنا!

أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون