
إيهاب القسطاوى
صفقة العم «ايوب»
لازالت عالقة فى أعماق نفسى تلك المشاهد المختزنة فى ذاكرة الطفولة، والتى يتم استدعاؤها فى أحيان كثيرة، ولأسباب متعددة ومتنوعة، قد تعود أحيانا لاشتياقى الشديد لاستعراض هذة المشاهد، وأحيانا أخرى من اجل الهروب من واقع مؤلم الت إليه حياتنا بتفاصيلها الرتيبة المملة، فإنى بنفسى إلى الغوص فى أعماق أزمان خلت تجلت فيه براءة الطفولة كما ينبغى إن تتجلى البراءة، وهنا اقصد بالتحديد تلك المشاهد المتيقظة دائماً بالذاكرة والمتعلقة بطقوس الطفولة، ومن ثمّ العودة مرة أخرى اليها بكل تفاصيلها السحرية وجمالها وجموحها، وهنا يحضرنى أننى عندما كنتُ طفلا أتذكر أمى تلك السيّدة العظيمة التى ما زلت اشعر بالخضوع أمام عظمتها الرّوحيّة والتى لم ولن أخجل يوماً من اسمها السيدة فتحية عبد العظيم القسطاوى، فعلى يديها الحانية تعلمت أبجدية حروفى الأولى وشغلت منها عقودا لاتداس على الأرض، فقد كانت تصطحبنى إلى المدرسة وفى أثناء ذهابنا كانت تصرّ على أن تشترى لى أجمل القصص القصيرة مما ولَّد لدى شغف شديد بالقراءة فى سنّ مبكرة، وبمرور الوقت تحول هذا الشغف الى ولع شديد مصحوب بإحساس بالمتعة، فقد كنت شغوفاً بالقراءة مهتمًا بالاطلاع والبحث، واستمر هذا الوضع حتى اشتد عودى قليلا واعتمدت على نفسى فى الذهاب الى المدرسة بمفردى إلا إن كانت الرياح تجرى بما لا تشتهى السفنُ، فقد كان مصروفى اليومى يقف دائما حائلا أمامى، لاننى ببساطة لم اكن املك فى جيوبى المثقوبة الا بضعة قروش، لا تسد رمقى ونهمى للقراءة ولا تكفى لشراء الصحف ومجلات الاطفال التى أعشقها، وفى النهاية ومثل كل مرة اضطر صاغراً إلى قبول مجلة واحدة ومن ثم الرضوخ لإرادة عمى «ايوب» باعة الصحف والمجلات القابع ببضاعته الثمينة فى زاوية ضيقة على احدى أرصفة محطات ترامواى الأسكندرية الأزرق، والذى كنت أغبطه لما يملكه من ثروة ثمينة، متمنّيًا تبادل المواقع والأدوار فى يوم من الأيام . ولا أزال أتذكر وقوفى ساعات طوال على جنبات «فراشّتة» مقتفيا ً أثر الأحبار ﺍﻟﺴﺎﺧﻨﺔ، متلصصا لاقتناص نظرة ثاقبة لغلاف إحدى المجلات, وتتوالى الايام يوما بعد يوم، حتى تفتّق ذهنى إلى فكرة إبرام اتفاق بينى وبين عمى ”ايوب“ يسمح لى بمقتاضاه ان احصل على ما يشبع رغبتى من صحف ومجلات فى مقابل أن يأخذ منى مصروفى كل صباح، عليّ أن أقوم فى اليوم الثانى باعادة الصحف والمجلات إليه ومن ثما الحصول على الإصدارات الجديدة . وما إن عرضت الفكرة على عمى «ايوب» حتى رفضها بصلف واصرار، لكن مع شدّة إلحاحى علية وكثرة توسلاتى اليه، أضطر على امتعاض الى قبول الصفقة ممليا شروطه على، وما إن بدأ سريان الاتفاق واستلام الدفعة الاولى من الصحف والمجلات كان ينتابنى إحساس قوى باننى أحمل العالم بأسره بين طيـًـات يدى . وما إن أصل الى المنزل، حتى تبدأ رحلتى للعالم السحرى، حيث أجوب شّوارع وازقّة وحارات الحكايات، ممتطيا صهوة جواد الخيال الجامح، حاملاً قنديل الحلم، الذى مازال ينير دروبيى حتى الآن“.