الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
«العدالة الإنجابية» أساس «العدالة الاجتماعية»

لا يجوز معاقبة المنضبط بسبب سلوك المنفلت أو يتساوى فى الحقوق من تحمل مسئولياته المجتمعية فى مواجهة من أهمل وأسرف

«العدالة الإنجابية» أساس «العدالة الاجتماعية»

أخطاء شائعة ومتكررة يقع فيها أغلب من يتصدى بالحديث أو التناول لقضية السكان فى مصر، سواء كان ذلك مهاجمًا ومحذرًا من خطورة الزيادة السكانية والدعوة إلى تحديدها وتنظيمها، أو كان على النقيض مهاجمًا أى سلوك انضباطى للنسل متذرعًا بأسباب دينية يعوزها دقة التفسير والتأويل دون مراعاة  لفروق الأزمنة والتوقيتات!



إذًا نقطة الانطلاق الصحيحة فى التصدى للمشكلة السكانية فى الحالة المصرية تبدأ عند آليات وضع حدود لهذه الأزمة التى أدت إلى تحول البشر من «ثروة قومية» للبناء والتنمية إلى «أزمة قومية» تلتهم الثروات وعوائد التنمية!

«الزيادة السكانية» ليست أزمة فى حد ذاتها، وإنما المقصود تلك الزيادة المتسارعة غير المنتظمة أو المنضبطة التى لا يواكبها تطور مساوِ فى الموارد ومعدلات العمل والإنتاج، بمعنى آخر طرح برامج وحلول وإرشاد وتحفيز للسيطرة على معدلات الزيادة السكانية قبل أن تتحول من مجرد أزمة إلى «كارثة قومية» والعمل على  تحويل الثروة البشرية إلى طاقة إنتاجية وليس مجرد أرقام متضاعفة بشكل مخيف فى خانة العبء الاستهلاكى!

لذا كان المصطلح الرسمى للتصدى إلى هذه الأزمة هو «تنظيم الأسرة»، وهو ما تمت مواجهته من تيارات متشددة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضى تحت وازع دينى مقابل يدعو لمزيد من التناسل والتكاثر، وهو استخدام فى غير محله أو زمنه، لأن التكاثر المطلوب أو المذكور فى أسانيد دينية بنت زمنها وظروفها قد تحقق بالفعل وتجاوز الهدف المطلوب من هذه الدعوة إن صحت أصلاً!

■ ■ ■

بخلاف تلك الدعاوى الدينية المصمتة دون تجديد أو تدبر فى أمرها، نجد أن أصل المشكلة ناتج عن تراكم سلوكيات غير رشيدة لما يمكن أن نسميه «السفه الإنجابى»، حيث تبدأ المشكلة من رب الأسرة الذى يدرك تمامًا مصادر دخله وحدود إمكانياته ومستوى قدراته الاقتصادية والمعيشية، ومع ذلك يصر على تكوين مجتمعه الخاص بما يفوق تلك الإمكانيات، بشكل يعبر بوضوح عن الفشل فى إدارة الذات!

ومن أسرة إلى أخرى تتضخم الأزمة ويقذف بها فى وجه الدولة التى تجد نفسها مطالبة بإدارة حالة من الفشل الاجتماعى العام!

■ ■ ■

على الضفة الأخرى من المشهد السياسى والإعلامى، يدهشك أن تجد استخدامًا صار مبتذلاً لمفهوم «العدالة الاجتماعية» والمستخدم سياسيًا للضغط إلى ما لا نهاية على أى نظام، استخدام مكثف دون أى ربط بينه وبين الزيادة السكانية التى هى أساس تعطيل أى مشروع لتحقيق العدالة الاجتماعية.

لنجد أنفسنا فى مواجهة حالة مشتركة لانعدام جماعى بالمسئولية، يستدعى بالضرورة العمل الفورى المؤسسى لترسيخ وفرض ثقافة ما يمكن تسميته بـ«العدالة الإنجابية» تضع الجميع أمام مسئولياته، وتشكل عقدًا اجتماعيًا حاكما للعلاقات بين الأفراد بعضهم البعض وبينهم وبين الدولة، يمكن أن نجمل بنود هذا العقد فيما يلى:

- كل أسرة مسئولة عن إدارة نفسها بشكل مباشر ومحدد.

- كل أسرة تدرك جيدًا إمكانياتها وقدراتها.

- كل أسرة يجب أن تكون مدركة أن الخلل فى سلوكها الإنجابى يؤثر على المجتمع بأكمله.

- كل أسرة يجب أن تدرك أنها شريك أصيل فى تحقيق التنمية المستدامة التى تحفظ حقوق الأجيال القادمة.

- كل أسرة ملزمة بتلقين تلك الثقافة للأجيال الحالية لخلق حالة مواجهة مستقبلية.

-الخلل فى السلوك الإنجابى ينعكس بالضرر المباشر على عموم المجتمع وبالتالى نحن أمام حالة تمنح الدولة حق التدخل ترغيبًا وترهيبًا.

■ ■ ■

نحن أمام أزمة مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بسلوك المواطن، وعليه فإن الحل لن يبدأ إلا بتعديل هذا السلوك بالنصح والإرشاد والتوعية والتحفيز تارة، وتارة أخرى بالإلزام القانونى، فلا يجوز معاقبة المنضبط بسبب سلوك المنفلت أو أن يتساوى فى الحقوق والميزات والحوافز من تحمل مسئوليته المجتمعية فى مواجهة من أهمل وأسرف وزاد من الأعباء على نفسه وعلى الدولة!

فنحن أمام سلوك لا تترتب آثاره على من يسلكه فقط بل تمتد بقسوة إلى أجيال حالية وأخرى قادمة، فهو ضرر مركب نتج عن سلوك خاطئ لأجيال سابقة ورثتها أجيال حالية تصر هى الأخرى على توريثها لأجيال قادمة!

■ ■ ■

خطورة الزيادة السكانية ليست فقط فيما تتسبب فيه من أزمات تلتهم عوائد التنمية والحق فى الحياة الكريمة بدءًا من التأثير السلبى على معدلات استهلاك الكهرباء والطاقة والمياه امتدادًا إلى أزمة المواصلات، ومرورًا بالحصول على خدمة صحية وتعليمية لائقة وصولاً إلى الحق فى السكن الملائم، بل إن الخطورة الحالية والحادة والمستديمة هى ما تخلفه تلك الحالة من مجتمعات عشوائية مشوهة الوعى والثقافة فتصبح مصنعًا ومنبعًا وحاضنًا لتجمعات بشرية قابلة للاستقطاب من تنظيمات إرهابية وإثارية طالما كانت ولاتزال تستثمر آلام الشعوب، لندور فى فلك إعادة التكرير التنظيمية لتصنيع نماذج بشرية مخلقة ضد أوطانها ومجتمعاتها، وهى حالة لا تنضب وقادرة على التجدد ذاتيًا ما لم يتم التصدى لها بشكل جذرى!

■ ■ ■

لا مجال للحديث عن «العدالة الاجتماعية» أو «التكافل المجتمعى» طالما ظلت هذه القضية دون حلول جذرية جريئة وناجحة، وطالما ظل تجاهلها أو الخوف من الخوض فيها منهجًا اجتماعيًا يتم ربطه عمدًا بمكون دينى ليس له أى أساس شرعى.

بالحق أقول إن مصائر الأمم لا تترك أبدًا لضمائر الشعوب أو أمزجتها وموروثاتها، مصائر الأمم تحددها قواعد القانون والنظام التى تصنع من العقد الاجتماعى واقعًا عملياً ملزمًا لكل أفراد المجتمع الذين ارتضوا هذا العقد.

ليست هناك علاقة تعاقدية سليمة إلا إذا رتبت التزامات كما ترتب حقوق، فإذا أخل أحد الطرفين بالتزاماته المتفق عليها فإن عليه أن يدرك أن مقابل ذلك هو إخلال بحقوقه، فإذا ترتب على سلوكه ضرر للمجتمع فإن ذلك حتمًا يمنح الدولة حق التدخل بقوة القانون لتقويم هذا السلوك.

الآن ودون تأخير آن الأوان لهذا الوطن أن يتدخل بكل الوسائل الاجتماعية والتربوية والتعليمية والتثقيفية والتحفيزية والقانونية للتصدى إلى كارثة الزيادة السكانية أو فى قول أدق كارثة الانتحار القومى.