الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
صفقة القرن المصرية

لا مزايدة على مصر ولا مزايدة على الدماء.. فى القاهرة أصل القضية وأصل الحكاية

صفقة القرن المصرية

على مدار السنوات ظلت فلسطين متموضعة فى أعماق الضمير الوطنى المصرى.. على مدار السنوات لم تبرح فلسطين تمركزها فى الوعى المصرى العام الذى بقى محاطًا بسياج الوطنية المصرية العريقة.



‎فبعيدًا عما حملته الملفات والاتفاقات من بنود دبلوماسية فرضها الانتصار المصرى فى حرب العبور، إلا أن الشعب المصرى ظل ثابتًا على تصنيفه للكيان الإسرائيلى، تصنيفًا واضحًا توارثته الأجيال والثقافات المتعاقبة، حتى بات الشعور العام تجاه هذا الكيان مكونًا جوهريًا وكاشفًا لأصالة وصلابة وطنية المصرى المطمئن.

‎منذ أن فرضت مصر إرادتها وانتصارها فإنها ظلت محتفظة بقدرة مذهلة على إحداث توازن معقد بين العقل الدبلوماسى للدولة وبين حقيقة ما يحمله القلب المصرى من مشاعر وصلت إلى حد العقيدة الوطنية العميقة، ولم تنجح محاولات السنين فى تغيير طبيعة الشعور المصرى الذى ظل غالبًا على التطبيع.

 

■ ■ ■

 

 مصر لم تضبط يومًا عبر تاريخ الصراع العربى - الإسرائيلى أن مارست السياسة الجافة أو المجففة تجاه فلسطين، عندما تتصدى مصر للقضية الفلسطينية، فإن تصديها هذا مخضبًا بدماء ما يقرب من ١٢٠ ألف شهيد ممن حملوا السلاح نصرة لفلسطين، وآخرون ينتظرون فى صفوف الوطن. 

لا مزايدة على مصر، ولا مزايدة على الدماء، وحدها مصر التى عرفت معنى السلام بعدما خبرت معانى الحرب.. وحدها مصر التى أدركت حقيقة فلسطين القيمة وليست الوسيلة. وحدها مصر من تحمل طعنًا وتجريحًا بعد أن رفضت الخضوع لمحاولات وابتزازات المتاجرين بالدِّين تارة، أو المتاجرين بمصير الشعب الفلسطينى تارة أخرى بعد أن ظنوا أن كل شيء بات خاضعًا لقدرتهم الشرائية أو لقدرتهم على خداع الشعوب وتضليلها عن أصل القضية، فى القاهرة أصل القضية وأصل الحكاية.

 

■ ■ ■

 

لن نقول إن مصر تعيد تموضعها فى ملف القضية، فمصر هى القضية. إنما نستطيع أن نقول باطمئنان، إن أطرافًا إقليمية عديدة أصبحت مضطرة لإعادة تموضعها حول قيمة مصر.

المصريون أنفسهم مدعوون لإعادة التموضع حول ثقتهم فى وطنهم وقيادتهم، إنصاتًا لنداء رئيسهم عبدالفتاح السيسى الذى ناشدهم بالأمس القريب وهو على ضفة القناة بأن يكونوا واثقين من قدرات وطنهم.

مصر هى القضية، والقضية بلا مصر ليست إلا مومياء دبلوماسية بلا روح، لكن مصر الوحيدة التى تنفخ فيها من روحها العظيمة فتعيدها إلى صورتها الأولى التى شوهتها المزايدات، وسياسة الصدقات الإقليمية الممزوجة بالمن والأذى.

 

■ ■ ■

 

 الأزمة أفرزت حقائق مذهلة، لم تخلقها بل أعادت اكتشافها، وفى غياب التنظيم الإخوانى الذى ظل طوال ما يقرب من قرن من الزمان يبتذل القضية الفلسطينية لخداع الشعوب، ولسرقة أموال التبرعات التى جُمعت لإغاثة الشعب الفلسطينى بينما كان التنظيم ينفقها على أنشطته ومقراته، فإن غياب التنظيم فى الأزمة الحالية أتاح الفرصة للدور التاريخى للدولة الوطنية المصرية لأن يفرض نفسه بعدما كانت تشوش عليه مزايدات وتدليسات الإخوان التى استثمرت دماء الفلسطينيين لبناء التنظيم وممارسة النصب التنظيمى .

نقول إن غياب التنظيم أتاح حالة من العقلانية ظهرت فى الشارع المصرى بعيدًا عن المزايدات، فمنحت الدولة المصرية فرصة لإدارة دبلوماسيتها بحكمة استهدفت فى المقام الأول حقن الدماء الفلسطينية، وإجبار المجتمع الدولى على تحمل مسئولياته، فضلًا عن رفع الغطاء الأخلاقى عن تجار وسماسرة حقوق الإنسان الذين سكن الصمت حناجرهم وضمائرهم.

 

■ ■ ■

 

على مدار السنوات الماضية وتحديدًا منذ توقيع مصر لاتفاقية «كامب ديفيد» لم تتوقف المزايدة عليها، من أجل تخليق مواقف سياسية ليس هدفها تحقيق أى مصالح للشعب الفلسطينى، بل هدفها الرئيسى هو تقويض حجم مصر إقليميا بعد انتصارها عام ٧٣، من خلال سيناريو تحويل النصر العسكرى إلى هزيمة سياسية مدموغة بعار الاستسلام وهو أمر لم يحدث بل تم فرضه وتسويقه خاصة من خلال سماسرة الإسلام السياسى، وقد أثبت الزمن ذلك لأنه منذ ذلك الحين ولم تتقدم القضية قيد أنملة، وإمعانًا فى حصار مصر فقد تم حينها استحداث مصطلح «التطبيع» لإضفاء صبغة نخبوية على أشكال التعامل أو الاقتراب من الكيان الإسرائيلى، ليس كرهًا فى هذا الكيان بقدر ما هو إصرار على محاصرة الأنظمة المصرية المتعاقبة فى مساحة من التخوين تجعلها مضغوطة باستمرار، وتمنح خلايا الإسلام السياسى رصيدًا نضاليًا وهميًا، كما تمنح النخب الثقافية النظرية التى تدعى المدنية فرصة لإيجاد مساحة مشتركة مع تيارات الإسلام السياسى من أجل خلق جبهة متوحدة شكلًا فى مواجهة الأنظمة الوطنية المصرية.

إذن تم تخليق هذه الحالة وأدت لانشغال الأطراف بتقييم مصر أكثر من انشغالها بالقضية نفسها، لا لشيء إلا من أجل تحويل المنتصر إلى متخاذل، والمضحى إلى خائن .

ثم يأتى الموقف المصرى فى هذا التوقيت ليكشف المزايدين والعاجزين أصلًا عن التطبيع مع فلسطين أكثر من عجزهم عن التطبيع مع إسرائيل.

 

■ ■ ■

 

 برغم فرض حالة التخوين بالتطبيع، إلا أنه لم يتورط أى نظام مصرى وطنى رسميًا أو حتى من خلال روافد دولته العميقة فى إجبار أى مواطن أو كيان مصرى نقابى أو عمالى أو صحفى أو حزبى على التماهى مع أى شكل من أشكال التطبيع .

أى أن البنود السياسية التى شملتها اتفاقية السلام الملزمة رسميًا، لم ينجح أى منها فى التسلل إلى المساحات الشعبية المصرية أو أن يجد له مرتكزًا فنيًا أو ثقافيًا أو سياسيًا، بل ظل الشعور بحالة النفور من كل أشكال التطبيع يتزايد يوميًا حتى أصبح من مقتضيات تمام وكمال ونضوج الوطنية المصرية.

ففى الوقت الذى كان فيه المرجفون يزايدون على مصر علنًا وهم يتبادلون انخاب الانهزام الطوعى فى الغرف المغلقة، كان عادل إمام يهتف فى رائعته «السفارة فى العمارة» بصوته المرتفع: «يسقط قتلة الأطفال ..يسقط أعداء السلام»، ليصل صدى صوته إلى أرجاء السفارة التى اهتزت وزُلزلت زلزالًا شديدًا.

 

■ ■ ■

 

لم تتوقف محاولات حصار مصر خاصة بعد أن نجحت ثورة ٣٠ يونيو فى إحباط المخطط الإخوانى الذى كان مسخرًا من أجل انتزاع سيناء من خريطة الوطن لتصفية القضية على حساب السيادة المصرية، فانطلقت بعدها موجة إرهاب منظمة وكثيفة لعلها تنجح فى إعادة صياغة جغرافيا المنطقة الشرقية باعتبارها قد خرجت عن السيطرة المصرية وباتت جاهزة للاندماج فيما عرف بمخطط «صفقة القرن»، لكن الرد المصرى جاء ممهورًا بتوقيع الدماء الزكية التى فاضت على الأرض الطاهرة، بينما راح السيسى يبنى ويعمر من أجل التمكين لأهالى سيناء وحفظ حقهم فى حياة كريمة، ثم أصر على إنجاز مشروع الانفاق الضخمة لربطهم بالوادى.

ومع تصاعد العدوان الإسرائيلى على غزة كان الموقف المصرى معبرًا بوضوح عن حقيقة العقيدة الدبلوماسية المصرية تجاه القضية، لتبادر مصر فى «هجمة مرتدة» قدمت من خلالها مشروعًا وطنيًا لاعادة إعمار غزة تأكيدًا على حق الفلسطينيين فى أرضهم، ولإعادة ضبط جغرافيا القضية الفلسطينية التى لن تحل على حساب أى تمددات وهمية على حساب السيادة المصرية.

الهجمة المصرية كانت صدمة بقوة فعل دولة ٣٠ يونيو.

 

■ ■ ■

 

 المبادرة المصرية جاءت متسقة تمامًا مع تاريخ دبلوماسيتها الوطنية تجاه القضية والتى لطالما تعرضت للتشويه من أطراف مصرية داخلية به وإقليمية لم تبرح مقاعد المتفرجين ممن مثل لهم موقف مصر صدمة حقيقية فعجز بعضهم عن تطبيع موقفه مع الموقف الصلب للنظام المصرى الذى يعارضه بلا موضوعية طوال الوقت، بينما عجز آخرون عن التطبيع مع الشعب الفلسطينى الذى أصبح قادرًا على فرز المواقف الحقيقية عن الاستخدامات السياسية.