الأربعاء 11 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى الذكرى الحادية عشرة على رحيله

محمد أركون.. المفكر الذى سعى إلى تطوير العقل العربى

 تمر هذه الأيام الذكرى الحادية عشرة على رحيل المفكر الجزائرى محمد أركون ( 1 فبراير 1928 – 14 سبتمبر 2010 )  صاحب المشاريع الكبرى فى الفكر الإسلامى وقام  بعمليات مراجعة جذرية ونقدية للتراث والفكر الغربي، بغية الإحاطة بمناهجه المؤسّسة وخلفياته الفلسفية، بقصد التوصل إلى تحقيق التجاوز التاريخى والثقافى المطلوب، وخلق النقلة الحضارية النوعية، ولا يمكنه ذلك بغير الاستعانة بترسانة مفاهيمية ومنهجية، نعتها محمد أركون بنقد الاستشراق الكلاسيكى أو الإسلاميات التطبيقية، باعتبار سعيها إلى استعمال كثير من المناهج التفسيرية والتحليلية الجديدة، لتجاوز منطق الاستقطاب التقليدي، لينتهى فى الأخير إلى طرح بديل كامل، لعمل نقدى جوهري، يسمح ببناء عقل استطلاعى منبثق فى العصور الحديثة.



 ومن أبرزمؤلفاته : “الفكر العربي”، “الإسلام: أصالة وممارسة”، “الفكر الإسلامي: قراءة علمية”، “من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي”، “نزعة الأنسنة فى الفكر العربي”، “قضايا فى نقد العقل الديني”، “معارك من أجل الأنسنة فى السياقات الإسلامية”، وغيرها كثير.

 حصل على عدة جوائزمن بينها وسام جوقة الشرف الفرنسية عام 1996، ودكتوراه فخرية من جامعة أكستير البريطانية عام 2008، وجائزة ليفى ديلا لدراسات الشرق الأوسط بكاليفورنيا عام 2002، وجائزة ابن رشد للفكر الحر ببرلين عام 2003.

تميز محمد أركون عن باقى المفكرين العرب، بأنه صاحب دعوة عميقة، لإعادة قراءة التاريخ الإسلامي، وإعادة قراءة الواقع العربى من جديد كذلك.

صب أركون غضبه ولومه على الغرب، وعلى أنظمة ما بعد الاستعمار، فالغرب الذى أنهك العالم الإسلامى بالاستعمار الظالم، يحاول أن يرضى ضميره بتقديم بعض المساعدات الشكلية. لكنَّه فى الوقت نفسه، يصر على دعم الأنظمة المنتهكة لحقوق الإنسان فى بلادنا، هذه الأنظمة هى التى قضت على الفكر الحداثي، فى رأيه، وغذت ودعمت الاتجاهات الإسلامية الحركية.

لا تروق لأركون كتابات مثل «الاستشراق» لإدوارد سعيد. مع أنَّه يتوسَّل بالوسائل الغربية ذاتها والحديثة جداً، لدراسة الاستشراق، إذ يعيب أركون على الحداثيين أنفسهم ترددهم فى قبول نتائج الاستشراق- أى انَّ اعتمادهم على منهجيات وآليات ونتائج الاستشراق ليس كافياً فى رأيه، فيقول: «حتامَ يستطيع المسلمون أن يستمروا فى تجاهل الأبحاث الأكثر خصوبةً وتجديداً من الناحية الاستكشافية المعرفية؟ قصدت بالطبع أبحاث العلماء الغربيين الذين يدعونهم بالمستشرقين...» ولا ينفى أركون هنا الصفات التى يمنحها الاستشراق للشرق، لكنه يرفض أن تكون محققة بسبب عرقه السامي، بل هي- فى رأيه- بسبب منظومته الفكرية، فهو يوافق على الصفات والهوية التى صنعها الاستشراق، لكنه يراها صفات المنظومة الأرثوذكسية، أى الإسلام السنى عبر تراثه الممتد من القرن الأول الهجري.

والأنسنة التى يدعو إليها أركون هى مؤمنة شكلاً لاحقيقة، فالإيمان بالنسبة إليها حاجة من حاجات الإنسان لابد من إشباعها ولا يمكن تجاوزها. لذلك يتمركز الإنسان فى إيمانه حول ذاته.. إنها لا تختلف فى جوهرها عن الأنسنة الملحدة التى ينتقدها أركون، سوى أنَّ تلك الملحدة أكثر صراحة مع نفسها. لكن أركون أدرك أنَّ المشكلة الروحية لا يمكن تجاوزها، فعاد إلى الإيمان الشكلي.

وهو ينطلق من عقيدة وحدة الوجود وإن كان ينفيها. وتظهر هذه الإشكالية بوضوح أكثر حين يتحدث أركون عن حاجة الإنسان إلى إيجاد منظومة أخلاقية، والمشكلة عنده تكمن فى فكر التنوير الذى لا يؤمن بإيجاد مرجعية تؤسِّس للأخلاق. ولا يقدر على ذلك بسبب نزعته العقلية التى تحقق النجاحات فى مجال الأحياء والكيمياء، لكنها لا تستطيع أن تحســـم مسألـــة الأخلاق والقيم.

ويرى الأكاديمى السعودى مصطفى الحسن أن أركون يرى أنَّ هناك ثلاثة أركان لكل تراث، فيقول: العنف، التقديس، الحقيقة. هذه هى الأركان الثلاثة لكل تراث مشكَّل ومشكِّل للكينونة الجماعية أو للوجود الجماعى على الأرض. ولا تخلو منها أمة من الأمم أو قبيلة من القبائل أو دين من الأديان. والجماعة مستعدة للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدَّسة.

 والإنسان بحاجة إلى عنف وإلى تقديس وإلى حقيقة لكى يعيش ولكى يجد له معنى على هذه الأرض. لذا فالعنف مرتبط بالتقديس والتقديس مرتبط بالعنف، وكلاهما مرتبطان بالحقيقـــة أو بما يعتقدان أنَّه الحقيقة، والحقيقة مقدَّسة وتستحق أن يُسفك من أجلها الدم! هذا هو المنطق الذى ساد الوجود البشرى فى كل المجتمعات والأديان والعصور

يرى الدكتور شاكر النابلسين بحث أركون فى سوسيولوجيا الإخفاق العربي، ينصبُّ حول موقف المثقفين منذ مطلع القرن الماضى وحتى مشارف الثمانينات من الطرح الأركونى للتنمية الشاملة. ولقد فوّت العالم العربى على نفسه فرصة عظيمة خلال القرن الماضي، كان يمكن من خلالها أن يكون واحدة من القوى الكبيرة الآن، لو أن مثقفيه وسياسييه فهموا، وأدركوا، واستوعبوا، وطبّقوا طروحات أركون، فى مختلف أوجه التنمية.

لقد كان واقع الثقافة العربية خلال القرن العشرين واقع الخيالات والهيام بطروحات الثقافة الغربية، ومشكلاتها. وهذا الهيام لم يكن قاصراً على المثقفين العرب، بل إن بعض المثقفين فى الصين، واليابان، وكوريا، والهند، وماليزيا، وسنغافورة وأمريكا اللاتينية وغيرها، كانوا قد هاموا بهذه الثقافة، وأُخذُوا بها أخذاً سحرياً، ولكنهم فى الوقت نفسه ابتدعوا، وأنتجوا لأممهم ثقافة ذات هوية مميزة، استطاعت أن تقودهم إلى التفوق فى مجالات مختلفة. أما نحن، فقد وقفنا من الثقافة الغربية موقف المُعجب المذهول، ولم ننجح فى الاستفادة من هذه الثقافة، كما نجح الآخرون.

-فالزمن الاجتماعى والفكري، قد توقف لديهم عند القرن الخامس والسادس عشر.

بل هم ينطلقون فى تفكيرهم وآرائهم، من أنهم يعيشون حقيقةً، فى مجتمعات القرون الوسطى، وليس فى القرن العشرين وما بعده. ولعل هذا هو سرُّ تأخر الشرق عامة حتى الآن.

رحل محمد أركون وهو يرجو من قرائه ألا يُسقِطوا على كلامه ما فى مخيالهم المشبع بالخطابات الأيديولوجية وهو الذى قال فى مقابلة له عام 2002 : quot; أحترم الخطاب الديني، لأننى أعرف، كمؤرخ، أن التاريخ يفرض علينا أن نكافح من أجل التحرير السياسي. ولكن علينا، فى الوقت نفسه، أن نخوض معارك من أجل الأنْسَنَة، وأن تكون هذه المعارك فى مستوى أعلى من مستوى المعارك التى فَرَضَها علينا التاريخ; على أهميتها وهى معارك مؤقتة ولا تدوم. ولا يمكن لنا أن نعيش دومًا تحت السيطرة. قد يأتى يوم نكافح فيه ونُعفى من الضرورات الإيديولوجية. إنه السبب الأول الذى يجعلنا نكافح ونخوض معارك من أجل الأنْسَنَة; وهذه المعارك لا تنتهي.

ويرى الدكتور سيار الجميل أن محمد اركون اثار أاثاااجملة هائلة من العواصف ضده من قبل العرب والفرنسيين ليس بسبب نقداته القوية اللاذعة، بل لأسباب عديدة أخرى، فهو صاحب مشروع سماه (الإسلاميات التطبيقية)، وأسلوبه معقد جدا فى الكتابة، حتى يكاد لا يفهم كله مطلقا سواء فى الفرنسية ام العربية وقد تجّرد احد طلبته المخلصين وزميله فى ما بعد، ومنذ العام 1978 بترجمة العديد من أعماله وكتبه إلى العربية، وهو الدكتور هاشم صالح سورى الأصل والمقيم بباريس، ناهيكم عن انتقادات اركون اللاذعة التى كرسها ضد أولئك الذين اختلف عن تفكيرهم ومناهجهم من المستشرقين الفرنسيين. لقد اشتهر اركون وعرف فى فرنسا قبل أن تعرفه الثقافة العربية بسبب فرانكفونيته وعدم تسويق نفسه عربيا إلى أن ترجم له أول كتاب إلى العربية بعنوان تاريخية الفكر العربى الإسلامي.

عد محمد أركون صاحب واحدا من المشروعات الفكرية، واستهدف فيه فتح أفق من نوع جديد فى الفكر الإسلامى فيما اسماه بـتطبيق للمنجز، واعتبره منهجا عقلانيا حديثا فى دراسة الإسلام. ولقد بقى يسعى جاهدا إلى ترسيخ ذلك كونه يرى بأنه السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العلمى للواقع التاريخى المتنوع للمجتمعات الإسلامية. وينتمى محمد أركون إلى جيل فرنسى عالى المستوى فى ثقافته وابداعاته ومناهجه وفلسفاته، فلقد استفاد حتما من تجارب ومنجزات ميشيل فوكو وبيير بورديو وفرانسوا فوريه وغيرهم من الذين أحدثوا ثورة ابستمولوجية ومنهاجية فى الفكر الحديث، فأراد أن ينحى مثلهم فى دراساته وكتاباته ولكن عن الفكر الإسلامي، وقد جعله منهجه ينفصل عن مناهج الاستشراق الكلاسيكى الذى بقى مسجونا فى الدوامات الفيلولوجية، فهاجمها بشراسة متناهية وكل عناصرها ومن يدور فى فلكها من المستشرقين الفرنسيين. وقام أيضا بدراسات ألسنية وتاريخية وأنثروبولوجية متنوعة، وحاول تطبيق ما طبقه بعض العلماء الفرنسيين على تراثهم اللاتينى المسيحى الأوروبي، محاولا ذلك على تراث الإسلام وتاريخية تنوعاته.