الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 71

لغة الجينات 71

«الانتهازية» فى حياتنا أسلوب حياة.. نوع مهم من الثقافة العشوائية، يقتات عليها البعض.. فى الظاهر «الانتهازى» أكثر شخص يدعى العلم والمعرفة، عملة مزيَّفة يتعامل معها الناس دون أن يدركوا حقيقتها، ومع مرور الوقت يعتادون عليها.. وفى الباطن، يقفز على أكتاف الآخرين.. يتفنن فى إعاقة الآخرين وإيقاعهم فى المآزق والمشكلات، لا يقيم وزنًا لمثل أو قيم.. دائم الانتقاد لزملائه أمام أسياده حتى يظهروا بمظهر المقصرين ويظهر هو كمخلص أمين.



«الانتهازى» فى الظاهر مخلص متعاون ينادى بالمبادئ ويرفع شعارات رفض الظلم وضرورة المساواة... وفى الباطن شخص فاشل فى حياته.. أطماعه الدنيئة تحركه للاستمرار كعبد ذليل للحصول على المزيد من المكاسب.. يسعى للتعرف على الأشخاص الذين يتمتعون بمزيد من القوة والعلاقات المؤثرة، يحافظ جيدا على الاتصال الدائم بالأسياد.. يرفع شعار «الإيد اللى ماتقدرش تعضها بوسها».

«الانتهازى» فى الظاهر هادئ ودود يسعى للخير.. وفى الباطن مجرد من أى مبدأ أو عقيدة أو فكرة، أبرز صفاته الغدر والخيانة.. يجيد لعب كافة الأدوار واقتناص كل الفرص المتاحة لتحقيق المكاسب والمنافع الشخصية حتى لو كانت غير إنسانية وغير أخلاقية.

«الانتهازى» فى الظاهر يمتاز بحلو وعذب الكلام.. يقنعك بأنه صادق، وقادر على القيام بأى شيء تطلبه منه.. يتملقك ويسايرك من أجل هدف فى رأسه.. وفى الباطن إنسان عديم الضمير، متلون كالحرباء، تجده فى الصفوف الأول يصفق لمن مصلحته معه.. لا يستطيع العيش بين الناس دون حماية من مسئول.. ولا يتردد لحظة فى التشهير والتنديد بمن يحميه عندما يفقد سيده منصبه.

«أصحاب الجينات الأصلية» قد يرتبكون تصيبهم الحيرة فى الأوقات الصعبة، لكنهم أبدا لا يتخلون عن مبادئهم.. لا يخضعون سوى للنور بداخلهم.. فى الظاهر والباطن يملؤهم اليقين بأن الخير هو الابقى.

«الأمير كمال الدين حسين» صاحب جينات أصلية راقية.. واحد ممن سجلهم التاريخ بحروف من نور.. فى الظاهر أمير مدلل كل شىء يأتيه بسهولة.. وريث شرعى للسلطنة المصرية فهو ولى العهد للسلطان حسين كامل.. وفى الباطن ترفض نفسه الأبية وجيناته الأصلية أن يتولى حكم مصر البلد التى يحلم الجميع على مر التاريخ بحكمها.. البلد التى قال عنها نابليون «مصر هى الدولة.. قل لى من يحكم مصر أقل لك من يحكم العالم».

فى الظاهر جاء هذا العرش يسعى إلى الأمير كمال الدين حسين على صينية من ذهب فهو الوريث وولى العهد.. فقد تولى والده السلطان حسين كامل عرش مصر فى عام ١٩١٤ فى بداية الحرب الأهلية الأولى، مع إعلان الحماية البريطانية على مصر، وكانت الدولة العثمانية وقتها صاحبة السيادة القانونية وليس أكثر على مصر، أما بريطانيا فقد كانت صاحبة السلطة الفعلية منذ احتلالها مصر عام ١٨٨٢، أما خديوى البلاد فقد كان كما وصفته الصحف المصرية مجرد صاحب السلطة الشرعية.

وقتها وتم إلغاء لقب الخديو لأنه لقب عثمانى يمنحه سلطان الآستانة لحكام مصر وخلع الإنجليز الخديو عباس الثانى الذى كان معينًا من قبل الآستانة، وأعطوا حكم مصر للأمير حسين كامل الذى منحوه لقب «سلطان» لتزول سيادة تركيا على مصر للأبد.

«الجينات الأصلية» عند الأمير كمال الدين حسين جعلته وبمحض إرادته الخالصة يرفض أن يكون انتهازيا ويجلس على عرش هذه البلاد.. تخلى عن العرش لأنه لا يريد أن يحكم بلدًا تحت حماية أجنبية مستعمرة هى بريطانيا التى تنكل بالمصريين وتسرق خيرات الشعب وترسل بها إلى لندن.

الأمير كمال الدين حسين فى الظاهر طلب بأدب شديد من والده إعفاءه من المسئولية.. وقتها كان قد تم تعديل النظام ليكون وريث العرش هو الاكبر سنا لأبناء السلطان.. فكتب الأمير رسالة نشرتها الصحف وقتها قال فيها لوالده «على أنى مع إخلاصى التام لشخصكم الكريم وحكمكم الجليل، مقتنع كل الاقتناع بأن بقائى على حالتى الآن، يمكننى من خدمة بلادى بأكثر مما يمكن أن أخدمها به فى حالة أخرى لذلك أرجو من حسن تعطفاتكم أن تأذنوا لى عن كل حق أو صفة أو دعوى كان من الممكن أن أتمسك به فى إرث عرش السلطنة المصرية بصفتى ابنكم الوحيد، وإنى بهذه الصفة أقرر الآن تنازلى عن كل ذلك.. توقيع كمال الدين»!

الامير الذى رفض حكم مصر.. فى الباطن كان ثوريا منحازا بشدة للمصريين.. رافضا للاحتلال وللظلم خرج فى مظاهرات تندد بالقوانين الظالمة والضرائب الباهظة التى فرضها الإنجليز على المصريين.. رفض سياسة السخرة وجر الفلاحين من بيوتهم إلى ميادين القتال،

للمشاركة فى الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، ولم يكن الفلاح يحصل سوى على خمسة قروش إذا خدم السلطة البريطانية داخل مصر ترتفع إلى ثمانية قروش إذا كانت خدمته خارج مصر.. ثار الشعب وثار معهم الأمير الذى يحلم ببلد مستقل لا يحكمه الاحتلال. عاش الرجل الذى رفض أن يكون انتهازيا.. وتنازل عن عرش مصر حتى بلغ ٥٧ عامًا.. وأصابه المرض وهو فى رحلة لأوروبا وتوفى فى أغسطس ١٩٣٢ وأقيمت له جنازة عظيمة بعد أن أعيد جثمانه على ظهر الباخرة «دارتينيان» وهى منكسة الأعلام، وبكى المصريون فى جنازته وهتفوا باسمه وشاركوا فى دفن جثمانه فى مقابر الأسرة الملكية بمسجد الرفاعى إلى جوار القلعة.

أعلم أن الانتهازية مرض.. سبة فى الجبين ستطاردك وتطارد عائلتك طوال العمر.. كن مترفعا عن المناصب والمكاسب التى ستأتيك بكسر العين والنفس والانحناء وبوس الأحذية... ارفض حتى لو وزنوك ذهبا.