الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
استهداف الإبداع المصرى

استهداف الإبداع المصرى

فى تقديرى أن الرواية المصرية على قدر كبير من الازدهار منذ 2017، وتنعم بأصوات عظيمة ومجددة وأن لدينا عازفين فى ساحة السرد يتمتعون بكل الموهبة والعبقرية والذكاء ويبذلون من الجهد والعمل الكثير، ويتسمون بكل الجدية ولديهم مشاريع حقيقية وإخلاص كبير لهذه المشاريع ورغبة فى الإنتاج والإبداع. مصر دائمًا مبدعة ومتفردة والتنوع والعمق التاريخى دائمًا ما يؤهلها للمزيد، وبرغم التحديات والصعوبات والسلبيات، فالقدرات التعليمية فيها عظيمة وليست مدمرة كما يصور بعض المغرضين، وذلك لأن الإنسان المصرى مازال بخير، ودائرة الانتخاب والانتقاء لدينا واسعة ولها قماشتها أو خامتها المتنوعة، لكن يبدو أننا نواجه حربًا خفية وتربصًا على كثير من المستويات، وأجدنى هنا مضطرًا لهذه البداية ومضطرًا لعدم تجاوز القضية العامة التى ترتبط بها هذه الحالات الفردية التى نلمحها؛ لأن بدون التيقظ والانتباه لما يحاك ثقافيًا على المستوى العام لا نكون قد وصلنا إلى الخلاصة التى مضينا نحوها وتتبعناها مع التفاصيل والوحدات الصغرى ونحن نتابع الأعمال الفردية أو النماذج المختلفة. 



إذًا كان لدينا إبداع متفرد وهذا ليس ابن اللحظة الآنية أو هذا العام، بل يمكن القول بأن الأمور الأدبية تحسنت وتمضى نحو مزيد من الازدهار والدخول إلى مراحل جديدة وقفزات إضافية فى فضاء الإبداع، منذ أربع أو خمس سنوات، عقب مرحلة من الاستقرار التى لحقت 30 يونيو وما نتج عنها من استقرار وتنام تدريجي، وبرزت لدينا أصوات لافتة ومهمة ومتفردة وقوية أو تجدد عطاء أسماء راسخة وازدهر فتشكل المشهد الروائى المصرى من عطاء مبدعين كبار مثل كمال رحيم ومنصورة عز الدين وعادل عصمت وصبحى موسى وإبراهيم عيسى وريم بسيونى ورضوى الأسود وسامح الجباس ورشا عدلى ومصطفى عبيد وأحمد القرملاوى ومحمد بركة ومحمد إبراهيم طه وإيمان يحيى، وعزت القمحاوى وعمار على حسن ونعيم صبري، ومحمد أبو زيد، ومجاهد العزب وغادة العبسي، وطارق إمام وأحمد صبرى أبو الفتوح، ووحيد الطويلة، وحسام العادلي، وأيمن رجب طاهر وعلاء فرغلى (بدون ترتيب)، وغيرهم أيضًا من الأسماء، وفى القصة القصيرة لدينا عدد آخر من الأصوات المتميزة والمهمة كالدكتور محمد المخزنجى الذى مازال على دأبه وعطائه المتجدد، ويكتب القصة القصيرة بمستوى عالمي، ومثله الأديبة الكبيرة الأستاذة سلوى بكر وكذلك الدكتورة عزة رشاد وحسن عبد الموجود ومحمد داود وإيثار غراب وأحمد خالد داود، وكذلك فى الشعر، لدينا عدد بارز من الأصوات الراسخة المتجددة والأصوات الجديدة، وهو ما يؤكد أن الإبداع المصرى بحالة جيدة وفيه كثير من نقاط القوة والتميز، لكن ربما يكون هناك نوع من السيولة والركام والزحام، فضلًا عن بعض التربض، وهكذا إنى أريد التأكيد على أن هناك استهدافًا للأدب المصرى واستهدافًا للإبداع المصرى فى المجالات كافة. 

فى مجال الأدب الروائى وهو الذى أتابعه بدقة نجد أن هناك حالات من التربص بالإبداع المصرى من بعض الجوائز التى تبدو وكأنها إنما أنشئت بالأساس ليس لدعم الإبداع والأدب وإنما كانت بهدف هدم الأدب المصرى وهدم الروح المصرية، وتشكيك الإنسان المصرى فى نفسه وتشكيك الناس فيه، بالضبط مثلما أنشأوا محطات وقنوات وأشياء أخرى تستهدفنا بشكل واضح فى مجال الرياضة أو غيرها من المجالات فى حرب لو دققنا النظر سنجد أنها حرب شاملة، يهدفون بها إلى إسقاط الدولة المصرية، ولأنهم هم ومن دربوهم ويرشدونهم قد أدركوا أن مواجهة الدولة صعبة، راحوا يتجهون إلى الإنسان المصرى والمجتمع المصرى بشكل كامل، ولابد من أن نستوعب الالتحام الكامل بين الإنسان المصرى والدولة، وأن روح الإنسان المصرى هى الجندى الأهم وخط الدفاع الأول والمخزون الاستراتيجى والأساسى من القوة، ومثلما أى نهضة تبدأ من استلهام طاقات الإنسان المصرى وإبداعه واستنهاض عبقريته، فإن أى فوضى كذلك تبدأ من تشكيك فيه ومن هدم الروح وبث الهزيمة النفسية فيه وإفقاده الثقة بالنفس، يبدو أن أهل الشر المتحدين من الداخل والخارج قد أدركوا هذا جيدًا منذ 30 يونيو ولهذا توجه مخططهم الشامل إلى حرب نفسية كاملة على الفن والسينما والرياضة والإبداع الأدبى وبخاصة ونحن ماضون نحو انطلاقة واضحة إلى الجمهورية الجديدة التى تمثل صياغة أخرى لكثير من علاقاتنا بالعلم والإبداع والنظم الإدارية وعلاقتنا بالآخر وأشكال الإنتاج بكل أنواعه وكثير من المناحى والأسئلة التى أساسها الإنسان المصري.

يريدون بث روح الهزيمة والانكسار والضعف وتوصيل رسالة للناس أن كل شيء من الإبداع والقوة والثقة بالنفس قد مات وانتهى مع نظام الحكم القائم منذ يوليو برغم أنه لم يكن نظامًا واحدًا أو جمهورية واحدة بل كان عددًا من الأنظمة، يريدون القول كذبًا بأنه لابد أن نرى فى الإخوان صيغة أخرى وجديدة للحكم، والحقيقة هم ليسوا صيغة للإدارة والحكم بل صيغة للفوضى والتخريب والفتنة الشاملة والدمار وتكريس لمزيد من الرجعية والردة الحضارية التى لن يكون بعدها قومة أخرى، إنها محاولات وجولات من الحرب الباردة والناعمة والشاملة ضد كل شيء، وهى بالأحرى ضد الإنسان المصرى بهدف هزيمته وسحقه، فالإنسان المصرى هو مركز الثقة والقوة البشرية الأكبر فى المنطقة وصانع الحضارة الأول فيها وليس هذا مقصورًا على ما هو داخل مصر فقط بل ما يتجاوز حدودنا، وإن – لا قدر الله - انهزم الإنسان المصرى فلن يكون بعد ذلك أى مخطط شيطانى صعبا أو مستحيلا، وأتصور أن هذا لن يكون أبدا طالما كان هناك صادقون وعاش بيننا مخلصون، منشغلين دائمًا بقضايانا ومصيرنا. 

أنا بالطبع لا أضخّم الأمور لأن الثقافة والإبداع بكل صوره ليس بعيدًا عن هذه الحرب، وهو ساحة مواجهة غير مباشرة، ويمثل مجالًا للصراع، فأى حضارة لها تجليات تعبر عنها وهذه التجليات تتمثل فى الإبداع الأدبى والفنى والرياضى ضمن الأشكال التى تتجلى فيها، بل ربما تكون الثمرة الحقيقية لأى حضارة أو مرحلة تاريخية مزدهرة حضاريًا هى ما ينتج عنها من فنون وآداب وثقافة، وليس مجرد حالة من البناء والإنتاج. 

المهم أن هذه الحرب الشاملة على الأدب فى تقديرى الشخصى تعمد إلى طمس نقاط القوة لدينا، وتتعمد تجاهل الإبداع المصرى حتى يموت أو يصيبه اليأس أو على الأقل لا يشعر بالجدوى والتأثير فيمتلئ بالإحباط، يريدون إحلال أصوات خاصة بهم مكان الأدب الجيد ويكرسون للعملة الزائفة ويغرقوننا بها، يريدون للأدب الرجعى والمتخلف والصيغ الماضوية منه أن تستقر وتهيمن وتشغل الساحة وتسيطر عليه وتصنع حالًا من الصخب التافه والزحام القاتل الذى يستحيل معه أى فرز، ولهذا المخطط يعملون عبر دور نشر مدعومة ومدفوعة، حتى بعض قضايا التنوير يكتبون فيها بشكل رديء حتى يشغلوها أو يصبح فيها زحام وركام ويختلط الجيد بالرديء، والأمر ليس عابرًا أو يأتى بمحض الصدفة أو العشوائية، ولكنه مخطط ومسألة منظمة. 

إذن لو قرأنا إنتاج بعض هذه الأسماء السابق ذكرها من مبدعينا وقارنا ما تنتجه مصر من إبداع متفرد وفقًا للمستقر والمسلم به من مقاييس النقد الأدبى ونظرياته بما ينتجه أى شعب آخر فهل سنحكم بالجفاف والنضوب أو تستقر هذه النظرة السلبية لأدبنا ومستقبلنا؟ فى تصورى لا، بل سنؤمن تمامًا بأن الأزمة من نوع مختلف وبعيدة تمامًا عن أن تكون أزمة فى الإبداع السردى فى الرواية أو القصة، وربما تكون إشكاليتها الأولى فى استراتيجية التضليل والقصد إلى الهدم وكذلك جزء منها يتمثل فى بعض الضعف فى النقد الأدبى الذى هو بالفعل يعانى معاناة صعبة بين انحساره داخل شواطئ الحياة الأكاديمية وبين سطحية التناول الصحفي، فليس لدينا فى الصحافة الآن ما يعوض النماذج التى تمثلت فى رجاء النقاش وعلاء الديب ومحمود أمين العالم ومحمد مستجاب ومحمد المخزنجى وأبو المعاطى أبو النجا ممن تجاوزت هيمنتهم وحضورهم الصحافة المصرية إلى كثير من المطبوعات الأدبية فى بعض البلاد العربية، وكانوا يتسمون بالعمق والنزاهة والمهنية ويتعاملون مع الإبداع الأدبى بنفوس سوية ويحتفلون بالجمال الإنسانى أينما كان. 

وهكذا فإنه فى مواجهة هذه الحالة من المواجهة والتربص بالإبداع المصرى عمومًا وبالأدب بشكل خاص وبالرواية على نحو أشد خصوصية فإنه لابد وأن يكون للمجلس الأعلى للثقافة دوره وخطته التى تهدف إلى تدعيم الأدب المصرى بشكل غير تقليدى يتجاوز رتابة ونمطية اللجان وأدوارها المحدودة المتكلسة، ولابد من إيجاد صيغ بديلة للترويج للرواية المصرية ودعمها، وعبر جوائز ذات شكل مختلف وجديد فى كل شيء، من حيث التعامل الإعلامى ولجان التحكيم وقيمتها المادية، لأن الأمر ليس مما يرتبط بالرفاهية، بل مما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتحديات الكبرى التى تواجه الدولة المصرية والمجتمع المصرى وهويته وتاريخه، الأمر يرتبط بالخطابات المشكلة للعقل المصرى ويرتبط بساحة الصراع بين الخطابات المختلفة الداخلية والخارجية، بين خطابات موجهة ومقصودة وداعمة للتفكك والتخريب الثقافى والمعرفى وضرب قضايا الانتماء والوطنية وأمر يتصل بمستقبلنا ومصيرنا ولابد وأن يكون تعاملنا معه وفق خطة واضحة ومدروسة وبعيدًا عما اعتدناه من الارتجال والعشوائية أو الثبات على الأشكال القديمة التى ربما تجاوزها الزمن، فمصر مثلًا كانت سابقة إلى كافة الأشكال التنظيمية والإدارية المرتبطة بالثقافة والأدب واهتمت بها ثورة يوليو اهتمامًا عظيمًا يتناسب مع تحديات ذاك العصر.

الأمر ليس صعبًا طالما كان هناك وعى بالحالة الراهنة والوعى بما يحدث فى الساحة الأدبية والثقافية وطالما كان هناك وعى بطبيعة المرحلة التى نعيشها من التقدم بقوة نحو الجمهورية الجديدة وتحدياتها، وطالما توافرت الأدوات والعناصر البشرية والمقومات كافة التى يمكن أن تتم صياغة مرحلة جديدة فى ضوئها، مرحلة جديدة على المستوى الثقافى والمعرفى والأدبى والفني، وربما يكون الفن وبخاصة السينما والدراما قد انطلقا إلى هذه المرحلة سابقين بخطوات، ولكن لا ننسى أن الإبداع الأدبى هو الزاد والمنبع الحقيقى لإحداث طفرة جوهرية فى السينما والدراما لأن الأدب من المحركات العميقة والداعمة للتحولات الجوهرية لكونه يعمل على البنيات الأعمق ولكونه يمكن أن يشكل مادة ومصدرًا للاثنين، بل أحيانا ما يحرك الأدب الموسيقى والخيال العلمى ويحرك مجالات أخرى كثيرة فى الحياة الفكرية والعلمية، فالأدب يرسخ لاتجاهات فكرية وفلسفية أو نزعات معرفية معينة ويرسخ أنماطًا من السلوك الحضارى ويؤدى أدوارًا ترتبط بصياغة العقل الجمعى وتوحيد الاهتمامات والشواغل الجماعية.