الإثنين 30 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الذهب الأصفر.. «الجرن والنورج»

الذهب الأصفر.. «الجرن والنورج»

أنا كاتب من طراز قديم، دائما ما أكتب عن الماضى الجميل، وأيام الطفولة عندما كنت صغيرًا وكانت رائحة حصاد القمح تملأ الجو وتبدأ فلاحات الوطن العظيمات صناعة الفطير المشلتت من قمح الأرض فى مثل هذا التوقيت من كل عام، كنا نستعد «لضم الغلة» من بعد صلاة الفجر وحتى وقت الظهيرة، فيذهب الفلاحون للاستراحة أو القيلولة وعند أذان العصر يستيقظ الجميع لاستكمال حصاد القمح من الغيط.. وعند الانتهاء تبدأ عملية أخرى لجمع أعواد القمح على شكل رُبط متساوية ويتم تعقيد كل ربطة، وتجميع المحصول بالكامل بالقرب من «الجرن». 



عند كتابتى لهذا المقال تذكرت تلك الأغنية الشهيرة “القمح الليلة ليلة عيده يا رب تبارك وتزيده” والتى قدمها الفنان الراحل محمد عبد الوهاب فى عام 1948. 

بالأمس كنت أشاهد بالقرب من الطريق الإقليمى الأخوة المزارعين أصحاب الأراضى الواقعة بين محافظات القليوبية والشرقية والمنوفية وهم يستعدون لموسم حصاد القمح، وفى نفس التوقيت فى هذه العروة الزراعية «تقليع» البصل بألوانه الذهبية الثلاثة الأحمر والأبيض والجامع بين الاثنين معًا فى لون واحد يشبه عروق الذهب فى باطن الأرض .. أرضنا الطيبة على مدار التاريخ دائما تخرج لنا الخير، وخاصة فى هذا التوقيت سنويا مع قدوم أعياد الربيع وشم النسيم.

أتوقع هذا العام انخفاضًا كبيرًا فى أسعار البصل مقارنة بالعام الماضى الذى وصل سعره فى بعض الأحيان إلى ٤٠ جنيهًا واليوم وصل سعر الكيلو من الغيط بداية هذا الشهر إلى ٤ جنيهات وهذا فارق كبير نظرًا لزراعة آلاف من الأفدنة بالبصل فى كل من الوجهين البحرى والقبلى وحتى الأراضى الصحراوية غرب وشرق البلاد. 

نعود إلى الذهب الأصفر الذى قدسه الفراعنة وقدماء المصريين فكتبوا عنه العديد من البرديات التى تم العثور عليها، ووجدنا الرسومات القديمة والنقوش الأثرية وهى توضح قصص جنى محصول القمح وارتباطه بالخير والنماء فى مصر القديمة.

لاحظت أن أجيالنا من الشباب حاليًا لا يعرفون شيئًا عن تاريخ حصاد القمح فى الستينيات والسبعينيات وما قبلها، ربما بعض أفلام الأبيض والأسود، ونبذة صغيرة فى الكتب المدرسية.. و«الجرن» عبارة عن قطعة مستديرة على شكل دائرة يتم وضع القمح بأعواده كاملة، ثم نأتى «بالنورج» المصنوع من نوعية جيدة من الخشب الأحمر الزان القادر على تحمل ثلاثة من الرجال يجلسون فوقه إذا لزم الأمر، وله عجلات حديدية تدور من المغرب وحتى فجر اليوم الثانى وتجره الأبقار القوية حتى يتم دريس الأعواد والسنابل فيخرج إلينا «القمح والتبن»، وبعد ذلك تتم عملية التدرية بآلة اسمها «المدراة» أو المذراة، وهى آلة تشبه شوكة الطعام ويقوم الفلاح برفع التبن بها عاليًا فى الهواء حتى يتم فصل التبن عن حبوب القمح.

موسم جنى الذهب الأصفر هذا العام سيكون أفضل من الأعوام الماضية نظرًا للمناخ الجيد الذى تنسمته الأرض المصرية هذا الموسم فقد قلت الأمطار، وهذا مفيد للقمح ودرجات الحرارة كانت شبه معتدلة، واختفى مرض الصدأ الأصفر بفضل الله من معظم الحقول، إذًا نحن أمام موسم كله خير رغم الأحداث السياسية الساخنة التى تضرب المنطقة، وما يتعرض له الأشقاء الفلسطينيون فى غزة.. بإذن الله سنقتسم هذا الخير مع أخوتنا وسنقدم لهم الخبز والدقيق والمنتجات الأخرى من المحاصيل المصرية التى خرجت من باطن أرضنا الطيبة. 

والدولة المصرية فى عصر الجمهورية الجديدة تحاول زيادة الرقعة الزراعية، وزيادة الأرض المنزرعة بالقمح حتى يتم سد الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك ولدينا أمل بإذن الله أن يأتى يوم على هذا الوطن ويحدث اكتفاء ذاتى من محصول القمح، وتعود مصر إلى عصرها الذهبى سلة الغذاء فى العالم.

أخيرًا.. انتهت الذكريات الجميلة فى السنوات الماضية، وأصبحت عملية الحصاد آخر راحة، الناس تحصد وتدرس وتبيع محصول الذهب الأصفر فى بضع ساعات قليلة، والموضوع أصبح غاية فى الراحة، ولكن انتزعت البركة وضاعت الصحة ولم تعد فرحة الحصاد كما كانت فى الزمن الجميل.

 تحيا مصر.