الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 87

لغة الجينات 87

«الّلت والعجْن» من صفات أصحاب الجينات الخبيثة «شهوة الكلام» قاسية لا يقدر عليها ويقوّمها ويهذبها إلا القليل.. لا يسيطر عليها إلا كل ذي حظ عظيم من أصحاب الجينات الأصلية .



«اللت والعجن» ظاهرة تستحق التأمل والدراسة.. فالكل خبير فى كل شىء.. والكل يعلم بواطن الأمور وليس ظاهرها فقط.

مواقع التواصل الاجتماعى أطلقت مارد «اللت والعجن» بداخل الناس.. حولت العالم إلى «مكلمة كبيرة» لا بد أن تدلى برأيك فى كل شيء ،ما تفهمه وما لا تفهمه.. وكأن هناك من يقف خلفك بالكرباج صارخا «ماكتبتش ليه» !.. ما قلتش رأيك وأصريت على أنه الصواب والباقى خطأ ليه.

«اللت والعجن» على مواقع التواصل الاجتماعى حرمتنا من فضيلة الحوار.. سماع الآخر.. مناقشته.. وضعت أصحاب الجينات الخبيثة فى صدارة المشهد.. فى الظاهر يقودون حوارا.. وفى الباطن ببغاوات كبيرة.. طبعا الكثير من هذه الببغاوات تقول ما يملى عليها أملا فى إلهاء أو أملا فى ركوب تريند.. فيصير الأمر – أى أمر – حتى لو كان تافها إلى الأكثر شيوعا وغموضا فى وقت واحد.. الأكثر شيوعا لأن الجميع يقول رأيه ويدافع عنه باستماتة.. والأكثر غموضا لأنك لن تفهم أبدا ماذا يقولون.. لن تفهم أبدا كيف يدار «الترند» وعملية الإلهاء.. ولن تفهم أبدا  الاهتمام  الكبير بتوافه الأمور والإصرار عليه.. وستقف عاجزا أمام تدافع  الناس للمشاركة بكثافة مرعبة فى عملية إلهائهم واستهلاك الوقت.

«اللت والعجن» سيف كبير فى يد الجهلة والغوغاء والعامة.. سيف يذبح بسرعة فائقة بلا تفكير أو تدبير.. سيف قتل من قبل أول فيلسوفة فى التاريخ «هيباتيا» والتى كانت واحدة من أصحاب الجينات الأصلية التى تحدت الجهل ووقفت بقوة فى وجه استهلاك الناس والوقت والجهد فى «تريندات» تافهة ليظلوا تحت السيطرة والسلطة الدينية، يواصلون حياتهم كببغاوات تقول كلاما لا تفهمه.

«هيباتيا» فى الظاهر فتاة جميلة تعيش فى الإسكندرية عرفت فضيلة العلم والبحث.. محاضراتها التى يقبل عليها الشباب والمثقفون  بشغف وحب باتت طريق نور وأمل.. أول امرأة يلمع اسمها كعالمة فى الرياضيات والفلسفة.. ازداد الإقبال على أفكارها يوميا.. وفى الباطن تعيش مأساة فظيعة بسبب الجهل والتخلف.. حرب «اللت والعجن» التى تدار ضدها بشراسة.. والتهمة جاهزة دائما ساحرة «كافرة».. ملحدة.

«اللت والعجن» والمكلمة التى تضخمت صنعت سيفا كبيرا من الغوغاء والدهماء والعامة  فتشكلت فرقة قتل مدربة لمراقبتها فى كل مكان.. فى الظاهر يحضرون جلسات العلم التى تعقدها  ليتعلموا الرياضيات أو الفلسفة  من الفتاة الجميلة الشهيرة التى يحبها الجميع ووهبت هى نفسها للعلم قائلة: «لقد تزوجت الحقيقة»... وفى الباطن ينتظرون الفرصة المناسبة للفتك بها.. وحتى تأتى هذه الفرصة يستهلكون وقتهم ورؤوسهم الفارغة فى كتابة التقارير.. يفتشون فى ضميرها.. فى كل كلمة وإيماءة.. يضيقون الخناق على الجميلة المتواضعة التى لا تحب الظهور وتعرف فضيلة التفكير والصمت والتأمل والحياة فى محراب العلم.. يؤولون كلامها ويقدمونه لماكينات اللت والعجن الجاهزة دائما لإشعال المزيد من النار بحجة الدفاع عن الدين.

«اللت والعجن» المكلمة التى أحاطت الجميلة الهادئة من كل جانب حولت حياتها إلى جحيم لا يطاق.. وحلوتها أيضا إلى رمز وأسطورة حية  تعيش بيننا  حتى الآن.

«هيباتيا» فى ليلتها الأخيرة عام 415 ميلادية.. ألقت محاضرتها كالعادة.. امتلأت القاعة بشباب يبحث عن أمل حقيقى.. طرحت أفكارا ورؤى فلسفية جديرة بفتح نقاشات حولها.. لكن لم يكن أحد مستعد للنقاش.. ماكينات اللت والعجن كسبت المعركة.. كثيرون رأوها ملحدة كافرة تستحق الحرق.. وهتفوا ضدها!

فى الليلة الأخيرة كانت فرقة القتل حاضرة ، استمعت  لكلام الجميلة متوهجة العقل ولم تفهم، فرقة القتل الجاهزة على مدار التاريخ حتى لم تهتم بكتابة تقاريرها الأخيرة، فكل شىء قد تم إعداده للنهاية الدموية المأساوية وانتهى الأمر.

عادت هيباتيا فى عربة يجرها حصانان، هادئة تتأمل الطريق للبيت وفجأة تهاجمها فرقة القتل المدربة المنتظرة اللحظة بقارغ الصبر فبها يتقربون إلى الله كما أوهمهم أسيادهم، يجروها فى الشارع.. تعتدى الأيادى الآثمة عليها وهى صامتة وكأنها كانت تعرف النهاية.. يتمادى القتلة ويجردونها من ملابسها يربطون يديها بحبل  خشن ويطوفون بها فى الشوارع معلنين انتصارهم على العقل والفكر.. ينهالون على جسدها الضعيف بالضرب.. ثم يقررون بوحشية شديدة سلخ جلدها.. يتقدم أحدهم  لذبحها، ثم ينهال الباقون على تقطيع الجسد الضعيف المستسلم  قطعة بعد الأخرى، يجمعون  القطع المتناثرة ويشعلون نارا  لإحراقها بالكامل.

انتصر «اللت والعجن» على العقل والفكر.. ماتت هيباتيا الجميلة دفاعا عن أفكارها ومحاولاتها التصدى للجهل والخرافة.. ماتت نعم لكن  ظلت حية إلى الآن بأفكارها.. فيما  لا أحد يتذكر قاتليها أو من حرضوهم وساعدوهم «بالمكلمة» الظالمة التى اتهمتها بالسحر والكفر والإلحاد.

ماتت «هيباتيا» وانتشرت ظاهرة اقتحام عناصر للجماعات المتطرفة مكتبة الإسكندرية التى كانت صرحا من صروح العلم، انتشرت ظاهرة الاعتداء على المعابد الإغريقية والرومانية، وهدم التماثيل وحرق الأبحاث العلمية والخرائط بنفس التهمة تحض على الكفر والإلحاد!!

اعلم أنه «كلما علا صوتك وزاد منسوب صراخك كنت برميلا فارغا يصدر أصواتا عالية كلما استخدمه أحد للتطبيل.. واعلم أنك لا تملك من الأمر إلا الضجيج».. 

اعلم أنه ليس عيبا ألا تكون عارفا أو مطلعا بدقة على قضية أو موضوع معين، لكن العيب كل العيب أن تكون أداه «وإمعة» ببغاء ملونة زاهية الريش تردد ما يملى عليها بلا فهم ولا فكر..  ببغاء تعمل بضغطة زر.. صدقنى ليس مطلوبا منك أن تفتى فى كل شىء.