
محمود عبد الكريم
الجدل العقيم!
هل تعرف عزيزى القارىء أن هناك فى التاريخ إمبراطورية سقطت وتفككت وضاعت بسبب استمرار الجدل العقيم بين كبارها وشعبها وقاداتها، وهى الإمبراطورية البيزنطية؟ هى الأمبراطورية التى أسقطها الجدل العقيم وجعل العالم يستخدم اسمها فى مصطلح شائع وجيد يختصر الكثير من الشرح وهو «الجدل البيزنطى» والذى يعنى أن يتناقش طرفان دون أن يقنعا بعضهما البعض بما يؤمنان به، ولا يتنازل أى منهما عن وجهة نظره السلبية أو الإيجابية، وقد يستمر الجدل لفترة طويلة بدون الوصول إلى كلمة أخيرة أو حل أو اتفاق. «الجدل البيزنطى» عرفته البشرية بعد أن حاصر السلطان العثمانى محمد الثانى الملقب (محمد الفاتح) القسطنطينية (أسطنبول) والتى كانت فى ذلك الوقت تُسمى بالإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية وصمدت هذه الإمبراطورية أحد عشرة قرنًا فى وجه أعدائها ووجه من يحاول السيطرة عليها. لكن كان البيزنطيون وقت حصار مدينتهم وعاصمة إمبراطوريتهم منشغلين فى الجدل والنقاشات الدينية وتكفير بعضهم البعض، بينما كان محمد الفاتح يحاول الهجوم على أسوار القسطنطينية. فى ذلك الوقت، كان الإمبراطور قسطنطين الحادى عشر يحاول تهدئة الأوضاع وتوحيد صفوفهم للتصدى لجيش محمد الفاتح، لدرجة أنه كان يبكى وهو يطلب من الأطراف المتنازعة فى جيشه وشعبه التوقف عن نزاعاتهم ونقاشاتهم والتركيز على حماية إمبراطوريتهم. وجد الإمبراطور نفسه يحارب بشجاعة ولكنه قُتِل فى النهاية لاستمرار أبناء إمبراطوريته فى نقاشات غير مجدية مثل «هل الملائكة ذكور أم إناث»؟» و«من أتى قبل من.. البيضة أم الدجاجة؟» والكثير من الأسئلة والنقاشات التى أشغلت جيش الإمبراطور عن أداء عمله وحماية وطنه. فأصبحت «القسطنطينية» فى يد محمد الثانى الذى احتلها عام ١٤٥٣ م، وتسمى الآن «أسطنبول». ومع الأسف نعيش نحن الآن فترة من الجدل العقيم أو الجدل البيزنطى ، فنرى أبناء العائلة الواحدة أو الوطن الواحد يتجادلون فى أمور لا تستحق الاهتمام، وبإمكان هذا الجدل أن يشغل أمة كاملة عن التقدم والارتقاء بالعلم والعمل.
والحقيقة أننا أصبحنا الآن أسرى لمواقع التواصل الاجتماعى التى أصبحت تنقل الأفكار الصالح منها والطالح إلى مناطق نقاش بعضها خطر وبعضها مفسد للعقل والعقيدة وللفكر ويبدأ الجدال بسؤال ولا ينتهى إلا إذا ظهرت قضية جديدة ويبدأ الجدل من جديد وهكذا ولكن الشعوب التى تطمح لمواكبة عصرها ومسايرة التقدم العلمى والتكنولوجى لاتتكلم كثيرًا ولكن تعمل ثم تعمل وتعمل .
إن ابتعاد الناس عن الجدل والتركيز على الإنجاز والعمل، يقودهم إلى المساهمة فى عمل تغييرات إيجابية فى الحياة.. فالأولون ساهموا بالكثير رغم عدم وجود تقنية حديثة تساعدهم على ذلك، ولا سيارات تأخدهم إلى أماكن عملهم.. كل ما كان لديهم، هو حب للمعرفة واستغلال إيجابى للوقت.
بالتقنية الحديثة، بالتشجيع، بالتزود بالعلم والثقافة، باستغلال عقولنا وأوقاتنا فى العمل يمكننا أن نصبح من أفضل الناس فكراً وخلقًا، فالأموال وحدها لا تكفى لتقدم أمة، بل التنمية البشرية هى ما تستطيع أن ترفعها وتساعدها على التقدم.