الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
تحديات مصر الثقافية (1)

تحديات مصر الثقافية (1)

لا أبالغ إن قلت إن الفترة الراهنة هى واحدة من أخطر فترات تاريخنا وأشدها تعقيدًا على مستوى التحديات الثقافية والفكرية، فنحن فى مرحلة تحول حقيقى على مستويات كافة، وبالطبع أبرزها التحول نحو الجمهورية الجديدة التى بالتأكيد تتأسس فى تصور القيادة السياسية على عدد من المنطلقات المهمة مثل الرغبة فى دولة عصرية قوية وحداثية وتمثل جزءا من النسيج العالمى بكل خصائصه وتطلعاته، بأن تكون جزءا من العالم على مستويات البحث العلمى والحالة المعرفية والتعليمية وعلى مستوى الإنتاج والاقتصاد والدخل القومى وأشكال التنظيمى الحضارى كل، فهذا أمر يبدو واضحًا تمامًا ويمكن قراءته من وراء السطور فى الممارسة السياسية ومن حوارات الرئيس وما يحدونا معه من الآمال والأمنيات ويقودنا نحوها من الأحلام والطموحات لبلادنا. 



لكن ما يبدو على مستوى كبير من الخطورة والأهمية هو أن الأدوات المادية وإن كانت كافية وكفيلة بتحقيق هذه الأمنيات والأحلام والطموحات نحو الجمهورية الجديدة فإن التحديات فى الجانب الفكرى والثقافى تبدو فى غاية الصعوبة والقسوة وذلك للأسباب الآتية:

أولا: أن العقل العربى والإسلامى هو بالأساس فى حال من الجمود والركود ويواجه تحديات وأسئلة مهمة من قديم تنصل منها أو تقاعس عن حلها وحسمها ومازال يدور فى دائرة مفرغة حول نفسه ويعجز عن أن يجد مخرجا منها، أسئلة ترتبط بالأساسى والثابت من القيم الفكرية والدينية الموروثة التى ظلت على مدار قرون طويلة دون تجديد، فالعلوم العربية والإسلامية وتصوراتنا لأبواب وأقسام الفكر والفلسفة ظلت كما هى منذ استقرت على صيغة معينة فى العصور الإسلامية الأولى خاصة الأموى والعباسى، أى عصور الازدهار العلمى والمعرفى والتفوق الذى كان يعيشه العرب والمسلمون من قبل. وجميعنا لاحظ أن كثيرًا من أزماتنا وإشكالاتنا ترتبط بهذا الجمود الفكرى والدينى وأن كثيرًا من إشكالات الإرهاب والتطرف والنزاع وتنبع منه، ولاحظنا كذلك محاولات الرئيس السيسى ونداءاته ومطالباته الكثيرة والمتكررة بضرورة تجديد الخطاب الدينى ومراجعة علومنا ومراجعة تصوراتنا ورؤانا وتفسيراتنا وقراءتنا للوجود وللذات وللآخر وموقفنا من العلوم المادية أو الطبيعية وتقليل مساحة الخرافة والرجعية واليقينيات والسعى نحو صيغة أشمل لفهم الدين والارتباط بالآخر أو الانفتاح عليه والإفادة من الروافد الحضارية والإنسانية المتنوعة فى العالم. 

ثانيا: الجماعات الإسلامية المتطرفة المدعومة من قوى الاستعمار الجديد أو الاستعمار والهيمنة عن بعد، خاصة جماعة الإخوان وما تولد وتفرع عنها من الجماعات، وهى كلها تدعم هذا الجمود وتزيد من الإشكاليات الراسخة التى يواجهها العقل العربى والإنسان المسلم وتزيد من حيرتنا وتخبطنا، وبخاصة وأنها جماعات وكيانات دأبت بقوة على الخديعة وإلباس الباطل صورة الحق وقدرتها على تجييش الناس وحشدهم واكتساب تعاطفهم وقدرتها على خديعة الجماهير وتضليلهم بالعاطفة الدينية، وهذا الدور قديم وبدأ وتعمق فى وقت حاسم فى بدايات القرن العشرين فى الوقت الذى كان العقل العربى والمصرى يبحث عن خلاصه ويحاول استكشاف ذاته ويعيد تصوراته الحضارية والفكرية وبدأ فى حسم أسئلته ومشاكله بعيدا عن التصورات الاستعمارية، وكان يفكر فى شكل الدولة العصرية والحديثة وسينطلق، ومن هذا الوقت جاءت جماعة الإخوان المدعومة فى الخفاء من الإنجليز لتفسد هذا التحول للعقل العربى وتعطل مسيرة التطور وتصنع حالا من البلبلة وتعيدنا إلى أعماق الماضى وتخدعنا بأن العصور الأولى كانت هى الأفضل، والطريف أن هذه العصور المقصودة لم تكن العصرين الأموى والعباسى أو وقت الازدهار، بل أحالوا على عصور الاقتتال والفتنة والاضطراب والصراع فى الدولة الإسلامية وكل ذلك ليبرروا فكر الخوارج ويؤسسوا لدولة الكهنوت الدينى الخالص.

ثالثا: المرحلة الأخطر والتجربة الأشد قسوة وهى الخاصة بفتح الرئيس السادات المجال أمام الجماعات الإسلامية لتعمل فى المجتمع، وفتح المجال أمام الوهابية فى تحت وطأة عدد من الحتميات أو التقديرات الخاطئة، وهذه المرحلة عملت على تجريف الثقافة المصرية وخلخلة كل ما هو أصيل فيها ولم يبق فاعلا فيها إلا بقايا المرحلة الليبرالية التى اقترنت بثورة 19 وتبعتها أو بقايا مرحلة ثورة يوليو ورجالها المثقفين بشكل خاص أو أصحاب القيمة الفكرية ومنتج ثورة يوليو على مستوى التعليم والنهضة الصناعية والمعرفية، وهؤلاء هم من قادونا فى انتصار أكتوبر على سبيل المثال، لكن ما حدث بعد الانتصار من هيمنة وتغول الجماعات عمق من أزماتنا وإشكالياتنا خاصة أن الأثر الثقافى للحدث السياسى أو الاجتماعى فى الغالب يكون ظهوره أو تجليه بعد عقود.

لهذا فإننا فى الوقت الراهن ربما نكون فى أصعب مراحلنا لأن نتاج النقاط الثلاثة وثمارها يمكن أن تكون قد بلغت قمة النضج أو الاكتمال، فتضخمت كل هذه الأدوار من الإشكالات المعرفية القديمة المرتبطة بالعقلين العربى والإسلامى وتضخم دور الجماعات الدينية واستفحل حضورها وأنشطتها وتغلغلها فى المجتمع، وكذلك مرحلة السبعينيات والثمانينيات من التأثير الوهابى.

ولقد وجدنا الرئيس السيسى فى أكثر من خطاب وأكثر من موقف يلح على أدوار المثقفين والكتاب والمفكرين وقدر احتياجنا لهم فى هذه المرحلة المهمة والمفصلية، وهذا الدور نفسه هو ما نلمس مثيلا للوعى به عن الزعيم جمال عبد الناصر، ومن وقت مبكر جدا فى مرحلة تكون الجمهورية الأولى ومراحل الاستقلال الوطنى عن آثار الاستعمار ومحاولة الانفكاك عن أدواته وأشكال هيمنته وتأثيره الواسع سواء المباشر أو غير المباشر، وإذا كان الاستعمار قد رغب فى جعلنا تابعين وغير منتجين، فإنه كذلك خلق تيارا مضادا من الرجعية والارتكاز التام على الماضى بحجة مقاومة هذا الاحتلال والاستغراب أو الاستغراق فى ثقافة دول المتفوقة، وفى كتاب «دفاع عن الثقافة العربية» الصادر 1992م يورد مؤلفه فتحى خليل جزءا مهما جدا من خطبة ألقاها الرئيس جمال عبد الناصر عام 1957م أمام وفود الأدباء المشاركة فى مؤتمر الأدباء العرب المنعقد فى ديسمبر من العام نفسه، بعد حرب السويس وانتهاء أثر العدوان الثلاثى على مصر، وقال فيه الرئيس جمال عبد الناصر مخاطبا الأدباء والفكرين: «التحرر الفكرى ضرورى لنا فى الحرب الباردة التى تحارب بكل الأسلحة.

والأدب والفكر سلاحان أساسيان فى هذه الحرب، فأنتم قادة الفكر عليکم واجب أساسى فى توضيح الأمور، وفى إقامة أدب عربى متحرر مستقل خال من السيطرة الأجنبية أو التوجيه الأجنبى».

ويمكننا الجزم بأن هذه التحديات مازالت قائمة والسياق لم يختلف كثيرا، بل ربما ازداد صعوبة، ذلك لأن المواجهة أصبحت بأدوات مختلفة وأصبحت أشد ضراوة وغير مباشرة، والحرب الباردة مازالت قائمة بيننا وبين الجماعات المتطرفة والرجعية ذلك لأنها أصبحت وكيلا عالميا وأصبحت ذات تمويلات ضخمة وإدارة ممنهجة وقيادات مدربة على نحو غير مسبوق. ولأن هذه الحرب مع الإرهاب وهذه الاختراقات الفكرية والثقافية إنما تعمل على جعل المجتمع يعيش حالة من التخبط والاضطراب ويغيب عنه الانسجام والتناغم، تريد أن تبث أفكارا ونزعات هدامة تعوق انطلاقنا نحو التنمية والإصلاح. 

ويمكننا تناول عدد من النقاط التى تتضمنها استراتيجية الجماعات الإرهابية لإعاقتنا وتمثل تحديا أمامنا، ربما يكون أبرزها وأخطرها تغلغل الرجعية فى الأدب العربى، فالأدب الذى هو بشكل عام أداة من أدوات التنوير والتحديث وتجديد الفكر يصبح وسيلة عند الجماعات لبث الرجعية الدينية فى المجتمع، وزيادة مساحات الخرافة وغياب العقلانية ويأتى ذلك عبر عدد من الأشكال والظواهر الأدبية التى يمكن رصدها على النحو الآتى:

أولا: الرواية التاريخية وفق تشكيل يخلو من الجمال الإنسانى والحضارى ويكرس للعنصرية والعنف ويريد أن يكرس رسالة وحيدة وبارزة مفادها أن الماضى هو الحل وأن الرجوع إلى العصور الأولى هو الملاذ الآمن من بعض مشاكل الحاضر، وبعض هذه الروايات تحاول أن تشتغل على إسقاطات بعينها، مثلا أن تركز على التفوق على الآخر من أهل الحضارات والأديان الأخرى، فى تلميح خفى إلى الوضع الراهن، دون تطرق أو مناقشة عميقة أو تناول تفصيلى أدق يفند حضاريا ومعرفيا أسباب التفوق العربى القديم، الذى هو بالأساس لم يكن تفوقا عسكريا وحربيا فقط، بل كان تفوقا فكريا ومعرفيا، ومثلما كان للدول الإسلامية المتعددة جيوش وقيادات قوية، فقد كان لديها حركات ترجمة وافرة وكثيفة وانفتاح عظيم على الأمم الأخرى وميراثها ولم تكن قد تشكلت عقد النقص تجاه الآخر خاصة الحضارة الدول الأوروبية وهى عقدة تشكلت بعد ذلك كأثر للاستعمار واستغلتها الجماعات الدينية.