الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الدكتور أبوالقاسم رشوان.. رحل راضيًا بعد مسيرة حافلة بالعطاء والأثر الصالح

الدكتور أبوالقاسم رشوان.. رحل راضيًا بعد مسيرة حافلة بالعطاء والأثر الصالح

منذ أيام رحل جسديًا واحد من أهم أساتذة الأدب العربى القديم المخلصين للعلم والبحث الأكاديمى والإبداع الروائى هو أستاذنا الدكتور أبوالقاسم رشوان، أستاذ الأدب العربى بكلية دار العلوم جامعة الفيوم، والحقيقة أنه كذلك واحد من أنبل من عرفت فى عملى الجامعي، وربما فى حياتى كلها، فقد كان أستاذنا الدكتور أبوالقاسم حالة استثنائية فى حب الناس والإقبال عليهم، ونموذجًا رائعًا فى دفعهم وتشجيعهم، ويحب الجميع دون تمييز أو تفرقة، وكأنه إنسان من نوع مختلف، فلا يمكن أن تشوب صدره شائبة أو كأن كل شئون البشر تصبح عاجزة عن إثارة أقل قدر من الكراهية لديه، أو كأنه قد انتزع الكراهية من قلبه من جذورها بيده فلم يبق فيه غير الحب والرغبة فى العطاء والعمل والإنجاز وحث الناس وتحفيزهم عليه. نموذج متفرد فى الإقبال على الحياة وحبها وتجنب تبديد طاقته فى انتقاد الناس أو تتبع أخطائهم، كان يرى الجميع رفقاء درب ويريد لهم جميعًا الفوز فى سباق العمل والعطاء والإنجاز وترك أثر طيب، كان يقدر كل لحظة فى وقته ويدرك قيمتها، صاحب نظرة شمولية اجتماعيًا وإنسانيًا، فلا يركز على جانب دون آخر، وكان كذلك نموذجًا فى الحلم والصبر والتسامح وبث الأمل فيمن حوله. هو بالأساس رجل موهوب فى مراقبة الظواهر الأدبية والثقافية واكتشافها وتأصيل حضورها أو فهم منطقها ومنابعها، وبالرغم من ذلك لم يكن ينشغل فى ظواهر الحياة إلا بحقائقها وتطوراتها، ومع عمق ملاحظاته ودقتها لم يكن ينشغل بالناس أنفسهم بشكل فردي، بل ينشغل بالظواهر فقط، يراقب تطورات الحياة وتحولاتها العملية والثقافية والأدبية ولا يكره أحدًا، فيبدو مقتنعًا تمامًا بطبيعة الحياة القائمة على التنوع والاختلاف، وكان دائما وباستمرار صاحب موقف، ومع ذلك لا يجعله هذا أبدًا يعادى الناس أو ينزلق إلى الكراهية والعداء، وقد كنت شاهدًا على كثير من مواقفه الحاسمة الكثيرة التى كان يعبر عنها بهدوء وتحضر، مثل موقفه من فكرة الانتخاب المطلق لقيادات الجامعة من العمداء ورؤساء الجامعة وأن يكون ذلك بالانتخاب المباشر من أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة انتخابًا غير مشروط أو محكوم بأى ضوابط وقد عُمِلَ بهذا لسنة أو اثنتين عقب ثورة 25 يناير فأدرك أستاذنا خطورة هذا الأمر وقدر ما يمكن أن يفسد فى الجامعة ويهدمها ويجعلها ساحة للممارسات القائمة العصبيات والتحزبات ويحول العمل الجامعى تمامًا إلى ساحة صراع بين أطياف وفئات وأحزاب من الأساتذة وأعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة، وقد كان رافضًا لهذا النظام وبرغم ذلك كان إيجابيًا وشارك فى الانتخاب بصوته وكتب مقالًا عن سلبيات هذا النظام وما يمكن أن يسبب من الإفساد لمنظومة الجامعة إن لم يكن محكومًا بضوابط معينة، وطالب أن يتغير، وهذا ما تم بالفعل وصدرت بعد ثورة 30 يونيو مجموعة من القوانين التى ضبطت أمر اختيار القيادات الجامعية. 



وفى كلية دار العلوم دائمًا كان أستاذنا الدكتور أبوالقاسم صاحب موقف فى كل الأمور والشئون من أكبرها لأصغرها أو أهونها ولكنه كان باستمرار يوصل رأيه بشكل إنسانى متسامح بل كان كثيرًا ما يمنح القدوة والمثل بشكل عملى فى التحضر والرقى فى إدارة الاختلاف وأن يكون الإنسان منافسًا نبيلًا شريفًا ولا تكون له غاية غير الحق والخير والجمال والصالح العام. وقد كنت شاهدًا على اختلافه الفكرى مع الكثيرين ولكنه برغم ذلك لم يكن يتأخر فى السؤال عن أحد أبدًا ولا يقصر فى أداء واجب وبخاصة ما يرتبط بالعزاء والمواساة فى الفقد والموت، وكانت له مقولة ونصيحة شهيرة يكررها باستمرار مع كل ظرف فقد أو واجب عزاء «يجب ألا يمنع الإنسان من واجب الموت إلا الموت»، وبالمثل المناسبات السعيدة التى كان يسأل فيها عن الجميع ولا يفوته أن يهنئ الصغير قبل الكبير، وأتذكر موقفًا فى مرة من المرات حين جاء للمشاركة فى تشييع جنازة أحد الزملاء من مسجد آلـ رشدان بمدينة نصر وبالخطأ خرج أستاذنا وراء جنازة أخرى غير جنازة الزميل فى نوع من العجلة ونتيجة التأثر بالوفاة والحزن، ثم فوجئت بعد ربع ساعة يعود للمسجد ولم تكن جنازة الزميل قد خرجت بعد، ويقول لى سايبنى أعيط على واحد تانى معرفوش يا محمد؟ فكان دائمًا ساخرًا خفيف الظل فى غاية المرح يحول كل المواقف إلى ظرف وفكاهة، فلا يرى منه أحد غير البشاشة والكرم وامتداح البشر، وحين توفى أبى بشكل مفاجئ فى 2013 وهو فى عامه الثانى والخمسين طلب من كل الحاضرين من أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة من زملائى إحضار ميكروباص أو باص وجاء بعدد كبير منهم إلى بلدتى فى الفشن ببنى سويف لتعزيتى وكان أكبر الحاضرين سنًا وقيمة وقامة ونبلاً وإنسانية، برغم أنى وقتها كنت مجرد مدرس مساعد لم أحصل على الدكتوراه بعد، ولأستاذنا وصايا عديدة يعرفها الجميع ويحفظها المخلصون الوطنيون ممن تشبعوا بالسمات الإنسانية والوطنية والرغبة فى العلم، فكانت مثلا وصيته الثابتة الدائمة أن الإنسان يجب أن يركز على مشروعه الخاص وعلى إبداعه وألا ينشغل بالآخرين ويبدد طاقاته فى الصراعات وأننا لن نترك شيئًا وراءنا إلا الكتب والعلم الذى بُذل فيه الجهد المخلص وأنه لن يبقى إلا الأثر العلمى والأبناء الصالحون.

كان حريصا دائمًا على جمع أبنائه الصغار فى الكلية حوله كل أسبوع مرة أو مرتين لا ليتحدث معهم فى الأمور العلمية فقط بل ليقوِّم ويعالج كل ما يلاحظ عليهم من إشكاليات ويحاول أن يوجهنا بشكل غير مباشر ويعدل مساراتنا، فيخفف من حدة التشدد فى بعضنا أو يحاول أن يبث فينا قدرًا من الجوانب الروحانية أو يعزز قيما إنسانية معينة يلاحظ اختلالها أو نقصها ويعدل من الكسل والتراخى ويرفض أن يكون أستاذ الجامعة مجرد موظف يتقاضى راتبه وحسب، فكان يحاول دائما أن يعزز فينا قيم الفضول والجموح العلمى والرغبة الشديدة فى المعرفة والأمانة العلمية وتتبع كل صغيرة وكبيرة فى مجالنا وألا يكون لنا هم أو شاغل غير العلم وأن نعتاد إنصاف الآخرين ونقيم جهودهم بأمانة وموضوعية. 

والحقيقة أن الدروس التى يمكن أن يتعلمها الإنسان من أستاذنا الدكتور أبو القاسم تبدو غير محدودة. أولها الإيمان بقيمة العمل وأهمية الوقت وإدراك قدر احتياجنا لكل لحظة فى أعمارنا.

فبشكل عملى لاحظت أن أستاذنا رحمة الله عليه عمل لآخر أيام حياته وكان يقرأ ويراجع ويصوب ويدقق فى كتبه باستمرار، لدرجة أنه فى أوقات مرضه الشديد كان يجعلنى أقرأ عليه بعض الأجزاء أو الفصول من كتبه ويصوب أو يراجع أو يعود إلى مرجع أو مصدر ويتأكد من معلومة أو يستوثق من كلمة وكان يحاول أن يملى عليَّ بعض الفقرات أو الإضافات الجديدة لأكتبها أو يعدل عنوانا فرعيا وكانت لديه خطط ومشاريع وأفكار علمية كثيرة أو تبدو كأنها لن تنتهى أبدا فكان النشاط الفكرى والذهنى هو الدافع للاستمرار ويبدو أنه الباعث الحقيقى والمحفز على حب الحياة، وهكذا كانت الحياة بلا معنى أو قيمة لدى أستاذنا حين يكون العمل غير ممكن أو يبدو صعبا وبعيدا بسبب المرض، ولهذا أنجز أستاذنا فى السنوات الأخيرة أهم ما كتب وركز طاقته فى عمله ومشروعه العلمى والإبداعى بشكل يكاد يكون مثاليًا فتضاعف الإنتاج وأصبح أكثر نوعية، فكان أعلى وأفضل كما وكيفا وأتصور أن الزمن ومرور الوقت سينصف هذا العطاء وهذا المنجز ويبلوره وبخاصة ثلاثة أشياء أو ثلاثة محاور مهمة أنتج فيها أستاذنا وهي: المحور الأول تاريخ الأدب العربى القديم وفيه عدد من الكتب المهمة جدا التى أتصور أنها ستعيش زمنا طويلا وسيفيد منها الجميع لعقود قادمة وهو إنتاج كفيل بتخليد اسمه، وبخاصة مع إعادة طباعة بعضها وقد عمل على تجهيز الكتاب الأهم له فى هذا المحور وهو كتاب التفسير الرمزى للأدب القديم الذى آمل أن يخرج فى أقرب وقت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب التى قدرت الكتاب وأظهرت اهتمامًا كبيرًا به بعد قراءته وتحكيمه، وهناك عدد آخر من الكتب فى هذا المحور مثل نظرية النظم الشفاهى وكتاب المعلقات وهى رؤية حداثية وما بعد حداثية للأدب العربى القديم تأتى فى إطار كبير من العفوية والإخلاص للحقيقة العلمية دون تزيد أو مبالغات مظهرية بهدف المباهاة والتعالى النقدي.

المحور الثانى فى مشروع أستاذنا وهو ما يتصل بقراءته لإبداع أديبنا العالمى نجيب محفوظ وهو محور نقدى فى غاية الأهمية لأنه يقدم منهجًا جديدًا ونظرية خاصة فى مقاربة مرجعيات الخطاب السردى عندى نجيب محفوظ، وقدم فيه كتابين مهمين أحدهما قراءة فى رواية اللص والكلاب والآخر قراءة فى رواية أولاد حارتنا، أما المحور الثالث فى منجز أستاذنا الدكتور أبوالقاسم فيتمثل فى إبداعه الروائى المتشكل من خمس روايات مهمة ولها أسلوبها الخاص حيث اختزلت كثيرا من الخبرات الإنسانية وكثيرًا من الفترات والمراحل التاريخية من حياة مصر وتحولاتها الاجتماعية والفكرية والثقافية والإنسانية، وهى ورايات حافلة بالجمال الأدبى والسخرية والفكاهة وبعضها قابل لأن يكون سيناريوهات أفلام أو مسلسلات مهمة مثل رواية الترابيس أو الشاويش محمد محمد التى هى رمز للجندى المصرى والإنسان المصرى الصامد والمدافع عن مصر وتاريخها وأرضها وهويتها، فهى رواية مكثفة ورمزية وفى غاية الأهمية لأنها غير مباشرة وتركز على هذا النموذج للإنسان المصرى الأصيل الذى يدافع عن مصر ويحميها من الداخل والخارج. وكذلك رواية جراح لا تندمل التى تعبر عن عائلات الصعيد ونماذج الأسر المصرية المكافحة التى سعت للمكانة والعلم وتنافست على المجد من خلال تعليم أبنائهم، وصراعات المال والسلطة فى إطار من التحولات السياسية والتاريخية وهو إبداع روائى ينضح بالوطنية وعشق الوطن ومتشبع بالجمال الإنسانى والتشويق وفى غاية التماسك وله لغة أدبية رفيعة وخاصة جدا لأنه تتجلى فيها لغة العامة والشارع المصرى وطبقات الحرفيين والصناع والمناطق الشعبية أو بعض قرى الصعيد وكذلك فيها اللغة الفصحى البليغة التى فيها من لغة القرآن والحديث.

وهكذا فإننى حين أتأمل الآن هذه المسيرة الحافلة لأستاذنا الدكتور أبوالقاسم رشوان، كم أشعر بجمالها واكتمالها وروعتها وقدر ما فيها من النموذجية والمثالية التى كانت تناسب نقاء أستاذنا وجماله الإنسانى المتفرد، فأنتج وأبدع وكتب فى كل ما يحب وخلف آثارًا علمية عظيمة ومهمة  ستتجدد قيمتها وأهميتها بمرور الوقت لتخلد اسمه وبالمثل حين رزقه الله بالذرية الطيبة من الأبناء الذين كانوا جميعًا فى مهن مرموقة منهم ثلاثة أساتذة فى كليات الطب ومنهم كذلك المسئولون المثقفون والوطنيون العظماء، فلا أرى فى هذه المسيرة غير الجمال والمثالية ولا يليق بها غير الرضا والاطمئنان. فرحمة الله على أستاذنا النبيل الذى يمثل مدرسة متجددة الأثر يعجز الموت أو الفناء الجسدى على غلق أبوابها فسيظل ويبقى مدرسة وأستاذًا ونبراسًا مؤثرًا فى تلامذته ومحبيه وأصدقائه وأبنائه وكل من عرفوا قيمته وقدره.