الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 98

لغة الجينات 98

«امشى جنب الحيط.. ومن خاف سلم» دليل قوى على الجينات الخبيثة التى تتحكم فى البعض.. صاحب الجينات الخبيثة متردد بطبعه.. جبان.. ضعيف.. متقاعس.. متخاذل.. لايجرؤ على اتخاذ قرار.. يرى الدنيا من منظور وحيد.. مصالحه ومكاسبه فقط.



“صاحب الجينات الخبيثة” ممن تملكتهم لعنة المشى جنب الحيط.. فى الظاهر مهذب ..لايتحدث إلا همسًا.. يراضى الجميع.. ويصعر خده للناس. وفى الباطن يتلذذ بالخوف.. بالعيش  داخل الحيطان وليس بجوارها فقط.. لايتخيل حياته دون سيد يحميه.. الطاعة العمياء المطلقة منهج حياته.. يربح دائمًا رضا الأسياد وأصحاب الحظوة.. وهم يرونه نموذجًا مهمًا، جيدًا ولايترددون فى ترقيته وإعطائه المزيد من الفرص حتى لو فشل فيها جميعًا.. فأمنيتهم الحقيقية تعميم نموذجه ضحل الفكر المتردد الجبان فبمثله  ينعمون هم براحة البال.

“صاحب الجينات الأصلية” لايعرف التردد.. يمتلك جينات كلها إرادة وعزيمة.. ظاهره كباطنه لايعرف المماطلة والتسويف.. صادق مع نفسه ومع الناس.. لا يتحجج بالظروف ولايرضى لنفسه المهانة بالسيرجانب الحيطان أملًا فى سلامة وهمية لايجنى منها سوى إهدار الكرامة.

“نعيمة الأيوبى” واحدة ممن امتلكن جيناتٍ أصليةً وعزيمةً وإصرارًا لاحدود لهما.. من العلامات البارزة فى التاريخ النسائى، علامة بارزة ومضيئة  فى عالم المحاماة.

“الأيوبى” فى الظاهر فتاة ثرية تعيش حياة رغدة سلسة.. فوالدها المؤرخ إلياس الأيوبى، أحد أثرياء الإسكندرية، وفر لها كل شىء.. وكان فى استطاعتها أن تعيش كما كل بنات الطبقة الراقية وقتها تنتظر العريس لتنتقل من بيت والدها الثرى لبيت زوجها ابن الحسب والنسب وتنجب وتتفرغ لتربية أولادها لتكمل دائرة مفرغة لامتناهية كانت تعيش فيها البنات للأبد “الأيوبى” بعزيمة وإصرارٍ دخلت  مدرسة محرم بك  بالإسكندرية، وأصرّت على استكمال تعليمها فأرسلها والدها  للدراسة فى مدرسة الحلمية الجديدة بالقاهرة للحصول على الشهادة الثانوية.

“الأيوبى” سجلت اسمها بعد الثانوية بحروف من نور وكانت واحدة من أول خمس فتيات التحقن بجامعة فؤاد الأول “جامعة القاهرة حاليًا” عام 1929م، وحصلت على ليسانس الحقوق عام 1933... وزاملت طوال دراستها الآنسة فاطمة سالم، والسيدة زهيرة عبدالعزيز والدكتورة سهير القلعاوى، والسيدة فاطمة فهمى”، ليسجلن جميعًا تاريخًا جديدًا للمرأة المصرية والعربية.

“نعيمة الأيوبى” تقول فى مقال لها نشرته مجلة “الإتنين والدنيا “عام1945 أن حلمها بالذهاب للجامعة والعمل بالمحاماة ظل يطاردها منذ صغرها بسبب عمها المحامى والذى كان يبهرها بفخره واعتزازه بمهنة المحاماة.

اسمحوا لى أن أقتبس جزءًا مهمًا من مقال  «الأيوبى» حيث تقول: «كنا خمس فتيات، ظمأت نفوسنا إلى ارتياد مناهل العلم فى الجامعة.. غير أننا خشينا إثارة الرجعيين.. أولئك الذين نصبوا أنفسهم حماة التقاليد المزعومة.. ورأينا أن نلجأ إلى أستاذنا الدكتور طه حسين بك.. فما إن وقف على رغبتنا حتى وعد بتحقيقها، ونصحنا أن نلتزم الصمت وتجنب إذاعة الخبر حتى لا تخوض فيه الصحف، فيتعذر عليه المسعى.

وعملنا بنصيحة أستاذنا، وكانت «مؤامرة» ناجحة، إذ فوجئ الرأى العام بنبأ قبولنا فى الجامعة، ولكن بعد أن أصبح القبول نهائيًا».

وتضيف: «كان الجو الجامعى غريبًا علينا، وكنا غرباء فيه.. كان الجميع يرقبون حركاتنا وسكناتنا.. وأينما اتجهنا أحاطت بنا الأنظار، كأننا مخلوقات عجيبة تظهر على الأرض للمرة الأولى. وكنا نتحاشى أن نتحدث إلى الطلبة، أو نقترب من الأماكن التى يكثر وجودهم فيها، وإذا حيّانا أحد تجاهلنا التحية. وهكذا أمضينا وقتًا طويلًا، فى شبه عزلة، حديثنا همس، وخطواتنا استراق.

وكانت المرة الأولى التى سمع فيها الطلبة صوتى، حينما اعتدت السلطات على استقلال الجامعة، فثرت مع الثائرين، ووقفت أخطب فى نحو 1800 طالب وبدت الدهشة على وجوه الطلاب وهم يسمعون صوتى للمرة الأولى.. وراحوا يتضاحكون قائلين: (نطق أبوالهول).

وتوليت قيادة الطلبة خارج حجرات الدراسة، واستمر الإضراب عن تلقى الدروس ثلاثة أسابيع. وكم كانت غبطتى حينما دعانى العميد ذات يوم، وطلب منى أن أعمل على إعادة الطلبة إلى الجامعة، كما عملت على إخراجهم.. بعد أن زالت أسباب الإضراب.. وجاشت فى نفوسنا- خلال سنين الدراسة- أمنية التبريز فى ضروب الرياضة، لكننا لم نجسر على الإفصاح عن هذه الأمنية.. فظلت حبيسة فى صدورنا، والآن وبعد أن عجنا الحياة، حلوها ومرها، أستطيع أن أقول إن اختلاط الطلبة بالطالبات لا ينجم عنه أى ضرر، بل على العكس.. إنه يكسب الفتاة حصانةً ومناعةً.. إذ إن الحجر لا يحمى الفتيات ولا يصونهن.. ويجب أن تشعر الفتاة بأنها مسئولة عن نفسها، وأن لها من أخلاقها خير حصن..» انتهى الاقتباس.

“الأيوبى “ فى الظاهر حققت حلمها وأصبحت أول فتاة مصرية تحصل على ليسانس الحقوق ونشرت جريدة الأهرام صورتها فى الصفحة الأولى وكان الجميع يتوقع أن تتوقف عند هذا الجزء.. لكن فى الباطن لم تتوقف عن المزيد من تحقيق الأحلام.. خاضت معركة أشرس لترتدى روب المحاماة وتقف فى المحكمة تدافع عن المظلومين.. ذهبت لمحكمة الإسكندرية وأقامت دعوى على نقابة المحامين لتسجل اسمها فى الكشوف وتحصل على ترخيص بمزاولة المهنة التى كانت قاصرة وقتها على الرجال.

قدمها عبدالله حسين المحامى إلى أوساط المحامين، وساندها ودعمها كثيرًا، ودافع عن حقها فى العمل ، وعن حقوق المرأة ، وتقدمت بطلب لمحكمة الاستئناف لقبول قيد اسمها فى جدول عموم المحامين، لتكون  نعيمة الأيوبى أول طالبة مصرية تخرجت فى كلية الحقوق، وأول محامية مصرية.

أول جلسة نزلتها “نعيمة الأيوبى”  فى المحكمة كانت تدافع فيها عن ثلاثة من رموز الحركة الوطنية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزى، وهم: فتحى رضوان، وأحمد حسين رئيس حركة مصر الفتاة، وحافظ محمود نقيب الصحفيين.

وظلت “الأيوبى طوال عمرها مخلصةً لشعارٍ وضعته لنفسها من أول يوم محاماة حيث قالت “إننى لن أترافع إلا فى قضايا المظلومين لأنتصف لهم من الظالمين، وسأخصص حياتى لخدمة المهنة التى شغفت بها منذ كنت طفلة، ومنذ رأيت عمى محاميًا يفخر برداء المحاماة على أى شىء آخر فى الحياة”.

ألم أقل لكم أن العزيمة والإصرار قادران على فعل المستحيل.. ألم أقل لكم أن المشى جنب الحيط والجبن والتردد دليل على أصحاب الجينات الخبيثة... وأن الحيطان ستنهار قريبًا فوق رأس كل المتخاذلين الجبناء.

اعلم أن  المشى جنب الحيط لا يعنى السلامة دائمًا، لأنك فى النهاية لن تنجو من شر وقوعها عليك، و تعهدك بأن تلزم الصمت حتى تواصل البقاء على مكان لاتستحقه لن يدوم.